التعصب
بتاريخ 21:15 بواسطة شجرة
جبران مفرح
التعصب لفظ مركب من الجذر اللغوي ( عصب ) .. وهو على وزن تفعّل .. وهو يفيد التكثير وزيادة الشيء وتكراره مرات ..
والجذر ( عصب ) يدل على ربط شيء بشيء .. وقد سميت الأعصاب أعصابا لأنها تربط بين الأعضاء .. ولو أتينا للقرآن الكريم لوجدنا الجذر اللغوي موجود لكن اللفظ المركب ( تعصّب ) غير موجود حيث قال سبحانه في سورة يوسف( لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ )
أيضا يقول سبحانه ( قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ )
وقال سبحانه أيضا ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ )
وقال سبحانه عن ثروة قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ )
ومن خلال السابق يتضح جليا أن التعصب كي يكون تعصبا يحتاج لمجموعة أشخاص لهم آراء وأفكار معينة .. والتعصب هو ذوبان الشخصية في تقليد أعمى لأشخاص لهم إيديولوجيا أو مذهب وكيان مستقل .. حيث يقوم الفرد ليس بالدفاع عن أفكاره بل الدفاع عن أفكار وآراء المجموعة المنتمي إليها بغض النظر عن صواب آراءها من خطأها .. ويمتاز المتعصب للمذهب أو الإيديولجيا بإنّه لا يمتلك ميزة المراجعة الذاتية والنقد الداخلي أو حتى التسامح مع الآخر .. وكل من لا يدافع عن هذه العصبة أو المذهب لا يعتبر من ضمن المجموعة ..
ولذلك وقع أخوة يوسف في الخطأ وغرّهم أنّهم عصبة ويوسف فرد حيث تعجبوا واستغربوا لماذا لا يحبّهم والدهم بحجم حب يوسف وهم عصبة مترابطة .. لذلك نجد العصبة في القرآن الكريم مذمومه وليس لها أي قيمة كعصبة .. ومن هنا نفهم التعصّب أنّه يعبّر عن الانخراط في مذهبية أو ايديولوجيا معينة بدافع التقليد والانهزامية أمام المجموع للتعبير عن آراءهم والدفاع عنها وعدم التسامح مع الآراء الأخرى .. فالمتعصّب بارع في اكتشاف اخطاء الذين يختلف معهم بينما لا يستطيع أن يفتح عينيه على اخطاء مذهب جماعته ..
بل هو دائما ينفي عنهم كل العيوب وينسب لهم المميزات ويبالغ حتى ينسب لهم من المزايا ما يخالف العقل والمنطق أحيانا .. وهو في الحقيقة لا ينتج أفكار ولا يأتي بجديد بل يجنّد نفسه للدفاع عن آراء مجموعة من الناس ويعدّ من الخطأ أن نقول أن المتعصب يتعصب لآراءه وهو فقط يدافع عن آراء غيره ومن شروط التعصب وجود مجموعة يتعصّب لها المتعصّب .. ومن المؤسف حقيقة أنّ المتعصبين يتكاثرون حيث أصبح التقليد كالفطرة في البشر نظرا للتراكم الثقافي عبر التاريخ ووأد كل محاولات الإبداع والتجديد والابتكار ..
وحينما نرى شخصا ينتج أفكارا جديدة ويتمسك بتلك الآراء فهو لا يعبّر عن التعصّب لأنّه لا يوجد لديه عصبة أو أيديولوجيا يدافع عنها .. ولذلك فالإبداع والتجديد يتناقض تماما مع التعصّب .. والاستقلالية والفردية هي نقيض التعصّب .. وصاحب الفكرة الجديدة يظل وحيدا لا عصبة له .. وفي الحقيقة أنّ الرسالات السماوية جاءت لتحارب التعصّب والقضاء عليه .. لأن التعصب أيديولوجية منغلقة لا تقبل الآخر ولا تقبل التسامح معه .. وقد كانت دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام مبنيه على محاربة التعصب والإكراه ..
حيث لا إكراه في الدين من الأساس .. ويقول سبحانه ( وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) حيث أتاح للناس حرية الاختيار ولم تؤسس الدعوة لإقصاء الآراء الأخرى ونفيها .. بل إن ّ الله عزّ وجل عاتب الرسول قائلا سبحانه (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) .. ثم بعد ذلك أرسى للاستقلالية والفردية ضمن المنظومة الدينية فقال جلّ وعلا ( مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) .. وقال سبحانه ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) .. ثم أكد سبحانه على الفردية في داخل المجموع ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) فهنا يحدد سبحانه وتعالى الاختلافات ضمن المجموعة ( المسلمون ) .. ونهى أيضا سبحانه عن التبعية العمياء حيث قال أيضا جلّ من قائل( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ )
لذلك فالله سبحانه يأمر بالـتآخي والتكاتف والتلاحم في ظل الاستقلالية وعدم ذوبان الشخصية في المجموع .. وستبقى المجموعة ( المسلمون ) مجموعة غير منغلقة على ذاتها في ظل التلاحم والوفاق من الداخل والخارج .. بل مجموعة تستحث التغيير والتجديد وتتسامح أفراد المجموعة ومع الآخر ( المُختلف ) وتقبل دخول أي شخص يريد الانضمام للمجموعة .. وهذا لا يعدّ تعصبا في الحقيقة .. لذلك ينبغي أن تبقى الأخوة واللحمة تحت ظل هذا الدين الحنيف بدون إقصاء ومحاربة لمن يختلف معنا .. وفي نفس الوقت ينبغي أن نشجّع على التجديد والإبداع والابتكار .. وعلينا أن لا نحارب التعصّب بالتعصّب
يقول الدكتور عبد الكريم بكار - التعصّب يقوم على الاختصار المخلّ والتعميم المجحف، أي هو مولود لأبوين غير شرعيين، ولذا فإنه مذموم بمعايير الشرع والمنطق والإنسانية.
مع تمنياتي للجميع بالتوفيق وأن نستطيع نتخلص من التعصّب ونكون أمة رائدة لا متعصبة.
هذه المقالة هي المشاركة المميزة في نقاش فكري في صفحة أكاديمية بناء المفكر - إشراف : أ. د. عبدالكريم بكار
الأكثر مشاهدة
-
قد تقدم تلخيص لكتاب " روح الحداثة " ولم يكتمل لـ " حاجة في نفس يعقوب قضاها " ولعل الوقت المناسب يأتي لإعادة نشر ا...
-
من ألوان الحرب التى تشن الآن ضد الإسلام اعتباره طارئا على البلاد وفد عليها مع فاتحين غرباء، ثم استقر فيها على كره من أصحابها الأصلاء!!. ...
-
مفكر وناشط سياسي أمريكي، يُعتبر مُنظّر رئيسي لجناح اليسار هناك، معروف بانتقاده للسياسات الأمريكية ٧٧ جادة ماساتشو...
-
بعد أن عرجنا على مسألة "العولمة والهوية ومسألة المواكبة في التعليم العالي"، التي كانت قضية المنظمة العربية للتربية والثقافة و...
-
تخوض الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية تجربة الحكم في العديد من الأقطار العربية، وهي تجربة ستسهم بدون شك في زرع بذور النظرة الواقعية للأشياء لد...
-
شاءت الأقدار أن يلتقي سيد قطب بعباس محمود العقاد في مجالسه العلمية والثقافية ، وكان لهذا اللقاء أثر بارز على ثقافته وفكره وأدبه. ولم يكن ال...
-
Pour l’islamologue, Riyad pousse les intégristes afin de neutraliser les Frères musulmans et les forcer à négocier avec l’armée. Une lu...
-
أميركا الضعيفة وشبه العاجزة أخطر من أميركا القويّة والقادرة. طبعاً هذه المقولة متناقضة من حيث المنطق للوه...
-
الخبر السيئ أن يتحدث المجلس العسكري عن المتظاهرين والمعتصمين باعتبارهم بلطجية وعاطلين ومخربين. أما الخبر الأسوأ فأن يكون أعضاؤه مقتنعين...
-
أكد الدكتور عمار علي حسن الباحث بالشئون السياسية والدينية، مساء الخميس، أن الإسلام ليس محل تقسيم في مصر، منتقدا في هذا الصدد التصنيف الم...