العمل الديني وتجديد العقل د. طه عبد الرحمن - تلخيص
بتاريخ 00:14 بواسطة شجرة
قد تقدم تلخيص لكتاب " روح الحداثة " ولم يكتمل لـ " حاجة في نفس يعقوب قضاها " ولعل الوقت المناسب يأتي لإعادة نشر الملخص السابق حتى يستفيد أكبر عدد منه، ويكون متيسراً بعد تقديم بعض المقدمات التي توضح كثيراً مما غمض فيه لدى البعض
وهذا تلخيص لكتاب " العمل الديني وتجديد العقل " ، والتعجيل به لتعلقه بمفردات في أحد المناهج التي ندرسها الآن ( نحن م 4 ثقافة ).
فلعل فيه إفادة وتقريباً لما استشكل من استخدامات المنهج العقلي في الحضارة الإسلامية، خصوصاً فيما يتعلق ابتداءً بمفهوم العقل ( كلفظ مفرد ) ثم ما يليه من استخدامات للعقل.
مع التنبيه أن التلخيص بحسب ( فهمي ) و الخطأ وارد جداً، وتصويبكم يسعفنا.
ورزقنا الله وإياكم العلم النافع والعمل الصالح .
بسم الله الرحمن الرحيم
تلخيص كتاب " العمل الديني وتجديد العقل "
د. طه عبد الرحمن – وفقه الله - .
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله.بالله نستعين ومنه التوفيق والتسديد والتأييد.
المقدمة
افتتح الكتاب بذكر الباعث على تأليفه وهو " مشكلة اليقظة العقدية " في الستينات والسبعينيات الميلادية المفتقرة للإطار الفكري، والتأطير المنهجي المحكم. مما أظهر مشكلتين هما :
v الغلو في الاختلاف المذهبي.
v الخلو من السند الفكري.
ولدفع أسباب التراجع لهذه اليقظة الدينية، يُصرّح أن الهدف هو المساهمة في بيان الشروط التكاملية والتجديدية التي تجعلها يقظة متكاملة لا متنافرة، ومتجددة لا متحجرة. أي يقظة متيقظة.
وتتولى هذه المساهمة صنفين أساسيين من هذه الشروط، يدخل أحدهما تحت مسمى " التجربة "، والآخر تحت مسمى " التعقل " .
وشروط التجربة لا تحصل إلا بالتجربة الإيمانية العميقة المتغلغلة الحاملة على الأخذين بها بنصيب منها على " التخلق "؛ المؤدي لسلوك طريق الأخذ بأسباب الألفة والتفاهم لا عكسها.
وشروط التعقل فسبيلها تأطير وتنظيم وتأسيس هذه التجربة الإيمانية العميقة بأحدث وأقوى المناهج العقلية.
وهذه المساهمة ليست هي الحد الذي يقف عنده الكتاب، بل يتجاوزه لذكر التجربة العميقة التي عاشها المؤلف وما أثمرت به فيه، وفي ظني هي جزء من السيرة الذاتية، لكن بطريقة تدوين موضوعية ربما، بقالب علمي.
الباب الأول : ( العقل المجرد وحدوده )
مقدمة الباب الأول
افتتح الباب نص للغزالي رحمه فحوى معناه: إدعاء بالوقوف على فساد نوع من العلوم لا يتم إلا بالإحاطة بهذا النوع بمقياس مساواة أعلمهم في أصل العلم ثم الزيادة عليه " .
وفيه إلماحة مختصرة لسير الباب الأول بأن الإحاطة بمجالات وحدود العقل النظري لا تتم إلا من خلال عقل أرفع منه، فلابد من معرفة العقل النظري جداً، والإحاطة به من خلال مستوى أرفع منه.
ومن ثم وصف ظهور الخط القوي للخطاب الآخذ بـ " العقل " و " العقلانية " وغيرها من الألفاظ المقاربة له، وجعل العقل المجرد كأنه محل للإثبات والنفي، القبول والرد، الخطأ والصواب، وكأنه هو منتهى العقول و القادر على الإحاطة بالتراث كله، ومنه دخل التراث، ومنه تقويمه كله، ومنه مخرجه وإنتاجه! وأساسه!
الفصل الأول : ( مقدمتا العقل المجرد )
هدف هذا الفصل تبيين الحدود التي تتطرق إلى العقل النظري " المجرد " وتمييز صنفين :
v صنف الحدود الخاصة بالممارسة الإسلامية
v وصنف الحدود العامة بالممارسة العلمية والفلسفة عامة.
مقدمتا العقل المجرد
1- المقدمة الأولى : الصفة الفعلية للعقل المجرد
2- المقدمة الثانية : محدودية العقل المجرد
أولاً : المقدمة الأولى : ( الصفة الفعلية للعقل المجرد ) :
وضحها بقوله : " إن العقل المجرد عبارة عن الفعل الذي يطلع به صاحبه على وجه من وجوه شيء ما، معتقداً في صدق هذا الفعل، ومستنداً في هذا التصديق إلى دليل معين "
من محترزات المقدمة الأولى :
( الفعل ) : احترازاً من القول بأن العقل " جوهر "، وهو اعتراض على تشيئية العقل وتجزئييته، فتشيئيته بتجميد الممارسة العقلية بإنزال أوصاف الذوات عليها: التحيز، التشخيص، الاستقلال، التحدد بالهوية، اكتساب الصفات والأفعال. وتجزيئية : لأنها تقسم تجربة الفاعل الإنساني إلى أقسام مستقلة ومتباينة.
مكمن الخطورة : أن تخصيص العقل بصفة " الذات " يجعله منفصلاً عن أوصاف أخرى، لا تقل أهمية عن تحديد ماهية الإنسان مثل " التجربة " و " العمل " ، إن لم تكن أقوى.
استخدامات " العقل " لدى المسلمين :
العقل ( الفعل ): فعل القلب | العقل ( جوهر ) | العقل ( الجمع بين الفعل والجوهر ) |
العقل بمعنى الفعل اتخذ صوراً مختلفة وهي : أ- صورة الربط: إدراك القلب للعلاقة بين معلومين. ب- صورة الكف: يمنع صاحبه من الوقوع فيما يضر به. ت- صورة الضبط: إمساك القلب لما يصل إليه حتى لا يتفلت منه. | ذات قائمة بالإنسان: على المعنى اليوناني، تؤدي إلى التشيئية والتجزيئية - كما تقدم – وبذلك تتعدد الذوات! وهذا باطل. | أ- تارة يحملونه على معنى الفعل المحصل للعلم. ب- تارة يحملونه على معنى الغريزة التي ينال بها العلم. ت- تارة يحملونه على هذين المعنيين معاً، باعتبارهما يتقاسمان مدلول العقل. ( أي فعل وجوهر ) . وهذا الجمع بين " الأصل – الفعل " و " الدخيل – الجوهر "، ظاهرة من ظواهر اتصف بها الفكر الإسلامي . وهي ظاهرة تكشف جانباً من الممارسة الإسلامية، لذلك تستحق الدراسة والعمل عليها. فهذا التعارض بين الدخيل والأصيل حصل اجتهاد أصولي وكلامي لتجاوزه، فتم التوسل بآليات منهجية خاصة مثل: " إدخال تمييزات جديدة " و " حذف بعض السمات الدلالية" . مثاله: لفظ " العقل" فبدل أن يوصف بـ " الوجود المستقل" أخذا بالمعنى الأجنبي، فقد وصف بـ " القوة الغريزية"، التي لا تستقل بنفسها استقلال الجوهر. وهذا التقريب يقوم برفع التعارض بين المعنيين. |
نتيجة المقدمة الأولى :
1- العقل قد يحسن ويقبح كما تحسن الأفعال والأوصاف أو تقبح.
2- العقل يقوم على مبدأ التحول الذي تقوم عليه الأفعال والأوصاف، وبمقتضى هذا المبدأ يمكن توجيه القلب والتأثير عليه.
3- وصف جزء من الفعل القلبي بـ " المنهج العقلي " هو وصف للتمييز وليس وصفاً للإحاطة والحصر والإثبات.
ثانياً: المقدمة الثانية : ( مقدمة محدودية العقل المجرد ) :
وهي " إن العقل المجرد لا تظهر حدوده في الممارسة العقلانية الإسلامية العربية بقدر ما تظهر في الشعبة الإلهية من شعب المعرفة التي اشتغلت بها هذه الممارسة " .
الحدود الخاصة للعقل المجرد في الإلهيات:
هي حدود خاصة أثرت في العقل المجرد من حيث مجال إعماله فيها، وهي خاصة بالمعرفة والممارسة الإسلامية، فتطبق في مجالها لا تعم غيرها.
طلب المشروعية للإلهيات:
أ- بنائها على النصل الأصلي ( القرآن العظيم المجيد ) : فقد اشتمل على المادة اللغوية ( ع، ق، ل ) في صيغتها الفعلية، ولا وجود في هذا النص لصيغة اسمية من هذه المادة كاسم المصدر، وقد وردت هذه الصيغ الفعلية في معرض الكلام عن المغيبات والمكتمات من أمور الملكوت، فكان ذلك حاملاً للعلماء على الاستدلال بقدرة العقل المجرد على بناء علم إلهي ومكانته.
ب- عرف العقل المجرد عند علماء الإسلام بـ " النظر " : والنظر عندهم عبارة عن فعل إدراكي يطلب شيئاً معيناً للظفر به. والمقصود هو: استفادة تقرب من الله ، ويسمى هذا التقرب باسم " المقاربة" ، والمتوسل به " المقارب".
ولبسط الكلام عند الحدود الخاصة للعقل المجرد يُنْظَر إلى : " مسألة الألوهية" و " آية الأسماء الحسنى"، بناء على استيفاءهما، أفضل من غيرهما، شروط الكلام في الإلهيات.
الفصل الثاني: ( الحدود الخاصة للعقل المجرد )
المسألة الأولى : مسألة الإلوهية ومسلك المقاربة
حد النظر الإلهي يشتمل على معنيين أساسيين هما: " العقلانية " و " الاقتراب".
مبدأ العقلانية المقوم للنظر الإلهي :
" على الناظر الإلهي أن يثبت بالدليل ما يدعيه من حقائق إلهية، وأن ينهض بالصحيح من الأدلة ويأخذ بالقويم من المناهج".
مبدأ الاقتراب :
" على الناظر الإلهي أن يجتهد بعقله في السير إلى المطلوب الإلهي، وطيب المسافة بينه وبينه".
من شروط الاقتراب :
v أن يتزايد كلما تزايدت وسائله، وتكاملت فيما بينها.
v يبلغ أعلى درجاته متى أخذ بوسائل تناقلها النظار الإلهيون فيما بينهم وحصل يقينهم بها.
v وكل نظر قام على هذين المبدأين، واستوفى شروطهما حق له أن يُدعى " مقاربة إلهية".
خصائص المقاربة الإسلامية للإلوهية:
1- الإلهيات النظرية رمزية لا وجودية:
كل ما يمكن أن ينقله النظر من خلال الرموز اللغوية لا يتعدى أن يكون تصورات لأعيان خارجية، وهذه الحقيقة تدعو إلى القول بمبدأ استقلال مستوى اللغة عن مستوى الوجود. والممارسة الإسلامية تبين أن ممارستنا للغة تخرج عن حدودها الرمزية، فتثبت أموراً لا تطيقها هذه الطبيعة الرمزية مثل " الوجود والوحدة" في حق الخلق أو " القدم والوحدانية" في حق الخالق، لندرك أن هذا الخروج هو انتقال إلى مستوى غير اللغوي يكون التعامل فيه مع المسمى نفسه، وأن العلم الحاصل بهذا الطريق هو الذي ينعكس على الاستعمالات اللغوية.
2- الإلهيات النظرية ظنية لا يقينية:
ذلك أن البناء النظري يقوم على صور منطقية برهانية صارمة قد يستخدمها البعض متوهمين أنها تفيد اليقين في استخدامها في مجال الإلهيات، بينما إفادة ذلك تجيء من الاستدلال بأدلة لها تأثير في المخاطب من غير استيفاء البرهنة المنطقية.
3- الإلهيات النظرية تشبيهية لا تنزيهية:
ذلك أن عمليات الفهم والإفهام تتوسل بأسلوبي المقارنة والتشبيه، فالنظر بمقتضى مبناه اللغوي لا محيد له عن تحصيل المعرفة العقلية بطريق التشبيه، وعند التسليم بذلك فالخائض في الإلهيات واقع – شاء أم أبى – تحت وطأة الأساليب التشبيهية في تقريبه للمطلوب الغيبي وتقديره لصفاته، وهذا التشبيه هو تشبيه اضطراري. والذي يُحذّر منه هو التشبيه الاختيار، ومن حاد عنه وقع في التعطيل أو التأويل، فالتشبيه الاضطراري لا مناص منه. والمسلك الأسلم هو الإثبات كما جاء في الكتاب والسنة.
المسألة الثانية: الأسماء الحسنى والتقرب بالتسمية
حدود النظر العقلي في هذه الأسماء الحسنى :
اختلف النظار في ذلك نتيجة اختلاف طبيعة إدراكهم لوجوه العلاقة التي من الممكن أن تقوم بين الحُسن والأسماء، ثم بين الدعاء والأسماء. وهنا سيكون الاقتصار على إيراد ما كان من هذه المعاني من انتاج " العقل المجرد"، ليتأتى إظهار حدود هذا العقل فيه.
v نُسب الحسن في الأسماء إلى كون هذه الأسماء هي الأعلى والأشرف، أي أن الصفات التي تُطلق عليها هذه الأسماء بلغت الغاية في المسو بالنسبة لغيرها.
v الدعاء بالأسماء الحسنى – في نظرهم – هو تسمية الذات الإلهية، وتسمية صفاتها، وتسمية أفعالها باعتبار الذات والصفات والأفعال في أعلى مراتب العلو والشرف.
وهذا الاعتبار كافٍ للدلالة على أن هذا الدعاء ليس غرضه مجرد التسمية لذاتها، إنما الاستفادة بالتقرب من المدعو، ومقتضيات هذا التقرب وحدوده الخاصة للعقل المجرد.
ركنا التقرب بالتسمية ينبني على ركنين اثنين:
أ- العقلانية: فمن يسمي يسلك مسلكاً عقلياً نظرياً في طلب معرفة الأسماء الحسنى، معتقداً أنها ومدلولاتها من قبيل المعقولات.
ب- الإحسان: الأسماء الحسنى تُحسن لمن طلب معرفتها بطريق العقل المجرد بالتقرب من الله، فالحسن فيها لا ينفك عن الإحسان.
ت- النظرية الوصفية للأسماء: يرتكز التقرب بالتسمية على نظرية في الأسماء نسميها بـ " النظرية الوصفية "، وتنبني هذه النظرية على المقتضيات التالية:
· الدعاء بالاسم : تعيين اسم المسمى أو تلقيبه أو مناداته أو وصفه به.
· إمكانية رد الاسم إلى صفات اختص بها الاسم.
· أسماء الصفات تقترن مبدئياً بمعنيين اثنين هما " الوجود" و " الوحدة" لحصول علم سابق بالمسمى.
· وحدة الذات لا يضرها تعدد الأسماء.
وجوه قصور اختصاص التقرب بالتسمية بالتوسل بالعقل المجرد :
أ- هذا التقرب يكتفي من معاني الدعاء بأسماء الله ( لا يتعدى درجة التسمية ) لغرض تبليغي.
ب- إن المعرفة بالأسماء الحسنى – التي يوصل إليها هذا التقرب – لا تعدو كونها جملة من التصورات الذهنية والمعاني العقلية التي لا ترقى إلى مستوى المفاهيم النظرية الإجرائية التي تستعملها العلوم الرياضية والتجريبية.
ت- مبلغ هذا التقريب من التنزيه الواجب في حقه تعالى، لا يوفي بالقدر المستطاع، ذلك أن المسمي بالوقوف عند مجرد التسمية سيقع تحت وطأة التشبيه.
فمحصول حدود العقل في مسألة " الإلوهية " و آية " الأسماء الحسنى " أنها تقوم في الأوصاف التالية:
أ- الوصف الرمزي : استعمال الرموز اللغوية أبعد عن الوفاء بحاجتنا من المعرفة الإلهية من بعده عن الوفاء بحاجتنا من معرفة غيرها.
ب- الوصف الظني: ذلك أن البراهين المقامة للبرهنة على الوجود الإلهي تخرج عن صورتها البرهانية ، وغير محددة المعالم ، وطرق تحصيلها غير مضبوطة، وصفتها الإجرائية غير معلومة، وكثرة الأدلة التي ينصبونها كأنما يبتغون درء تعذر البرهان بتعدده.
ت- الوصف التشبيهي. – كما تقدم - .
الفصل الثالث: ( الحدود العامة للعقل المجرد )
1- الحدود المنطقية :
وهي حدود ثابتة بالبرهان الرياضي، " إن النسق المنطقي القوي يحتوي على الأقل على عبارة لا يمكن البرهان عليها بواسطته مع أن القضية المقابلة لها في النظرية صادقة ( عدم التمام )، وأن النسق الأقوى ليس مزوداً بطريقة معقدة لتحديد بعض العبارات أو عدم انتمائها إلى مبرهناته ( عدم البت ). ومعلوم أن هذه الحدود التي هي حدود الصياغة الصورية للنظريات العلمية هي قيود على قدرة الأنساق في السيطرة على الواقع ومراقبة حقائقه مراقبة شاملة.
وإذا صح أن الصياغة الصورية للنظريات ( أو الصورنة ) هي بالذات إضفاء الصبغة العقلانية عليها أو " عقلنتها "، صح معه أيضاً أن حدود هذه الصياغة هي حدود العقلنة ذاتها، بمعنى أنه لا يمكن إخضاع الواقع لعقلنة كاملة، ما دام هناك من الحقائق ما لا يمكن تعقيله. ولما كان العقل المجرد هو عين هذا التعقيل، تبين بما لا يدع مجالاً للشك قصوره عن درك حقائق علمية ثابتة.
2- الحدود الواقعية:
وهي التي يشهد عليها واقع العلوم في تكونها وتطورها .
أ- النسبية:
يسود اعتقاد بأن قوانين العقل المجرد مشتركة وكلية وواحدة عند جميع العقلاء! وهذا باطل إذ " لما كانت طرق المنطق؛ التي هي مناهج وضعت أصلاً لوصف العقل المجرد وترتيب قوانينه، بمثل هذا الاختلاف والتشعب، بل والتضارب والتعارض ... فإن ذلك كافٍ للتشكيك في إمكان وجود خطاب علمي بالمعنى الدقيق للعلم عن العقل بوصفه حقيقة واحدة يشترك فيها الناس جميعاً. وأقصى ما نحصل عليه، كائناً ما كانت دقة وسائلنا العلمية، إنما هو خطابات تقريبية يَرْكَب بعضها بعضاً ركوب الطبقات، ركوباً قد يزيدها بعداً عن المطلوب " .
ب- الاسترقاقية :
فما أن تمكن الإنسان من بعض المناهج التقنية، حتى صار إلى الاعتقاد بأنها الطريق الذي سيحقق له السعادة! لأنها ستؤدي إلى تسخير الكون حسب توجيهات الإنسان وقيمه! لكن الواقع يحكي انقلاباً للتقنيات على الإنسان وهذه الآمال الزاهية واحتواء الإنسان والاستحواذ على إرادته وتغييب آفاقه! " وما انقلاب التقنيات هذا على الإنسان إلا لأنها أخذت تستقل بنفسها، وتسير وفق منطقها بغير بصيرة من الإنسان، هذا المنطق الذي يقوم أساساً على مبدأين اثنين كلاهما يضر بوضعية الإنسان في هذا الكون.
v أول المبدأين ( لا عقلاني )، ومقتضاه : أن " كل شيء ممكن "؛ ويترتب عليه الخروج عن كل القيود، ومتى خضع الإنسان لهذا المبدأ الآلي استباحت الآلة كل شيء فيه، فأضرت به أيما إضرار.
v ثاني المبدأين ( لا أخلاقي )، ومقتضاه : أن " كل ما كان ممكناً وجب صنعه"؛ ويترتب عليه التحلل من كل الموانع الأخلاقية التي تقف دون هذا الصنع، كالموانع التي تحظر تغيير الخلق أو تدميره. "
فضلاً عن كون هذه التقنيات تتجه إلى السقوط في الظلمات، فإن المبدأين المذكورين يبينان كيف أن العقلانية الآلية تخرج إلى اللاعقلانية، وكيف أن العمل بمطلق هذه التقنيات يخرج إلى اللاأخلاقية، كأنما نموذج العقل المجرد، في نتائجه وتطبيقاته، يحمل بذور فنائه.
أ- الفوضوية:
يسود اعتقاد بأن العلم ينمو بتراتبية في خط مستقيم، وهذا اعتقاد يكذبه تاريخ العلم. والحقيقة أن علاقات النظريات العلمية علاقات تقاطع لا اتصال، مثل العلاقة بين نظرية التطور ونظرية التكوين. بالإضافة إلى أن هذه النظريات لا يكمل بعضها بعضاً، فما أن يجد أحدها طريقاً للإجابة على بعض الأسئلة حتى يقع في أسئلة أخرى قد تكون أعوص منها، فتأخذ الأسئلة في التزايد والانتشار في كل اتجاه قد يؤدي إلى الخبط!
3- الحدود الفلسفية :
أ- مادية العقلانية المجردة:
يكاد يغلب الاعتقاد بأن التجريد العقلي يفيد ترك الصفة المادية! وهذا باطل، ودليل بطلانه: أن ما نشاهده من تكامل بين العلوم الصورية التي جرت العادة عند هؤلاء على اعتبارها غير مادية وبين العلوم التجريبية المادية الخارجية في نظر هؤلاء عن مقتضى الصورية... ومرد هذا التكامل إلى طبيعة القوانين التي يبنيها ويرتبها العقل المجرد، ذلك أن التوسل بهذه القوانين في إدراك الأشياء يقوم على عمليات ثلاث هي التي تضفي الصبغة المادية على المدركات، وهذه العمليات هي : " التظهير " و " التحيز " و " التوسيط " .
v التطهير : فما أن يتعلق المنهج العقلي بموضوع حتى يجعل من جملة الظواهر القابلة للتحليل والتجريب! وهذه النزعة من شأنها أن توقعنا في المماثلة بين الشيء وصرفه الظاهري.
v التحييز: فلا يتم كمال ظهور الشيء إلا بإدخاله في حيز مكان وزماني، مما يجعله قابلاً لأن تجري عليه وسائل التقدير والتقسيم والتركيب المتوافرة، ومن آثار هذا التحييز أن يجعل ما هو غير ممتد ممتداً وما هو غير قابل للمقدار قابلاً له، كأن يسوى بين معنى " الخشوع " في الصلاة وبين " الذبذبات " الحاصلة في منطقة من مناطق الدماغ.
v التوسيط : إن العلم الحاصل بالعقل المجرد ليس مستفاداً بصورة مباشرة، وإنما مستفاد من اصطناع لوسائل، حتى يتهيأ له ضبط الظواهر وصفاً وتجريباً ومراقبة وتنبؤاً.
وينضبط التوسيط بالمبدأ التالي وهو : " أنه كلما كان الشيء دقيقاً ولطيفاً في ظهوره، تعدد وتعقدت الوسائط إليه" ، ويستنتج من هذا المبدأ، أن إدراك الحقائق غير المادية، كالغيبيات والروحيات سوف يستلزم من الوسائط المادية ما لا حصر له.
يظهر إذن أن العقل المجرد بعملياته : " التظهير" و " التحييز " و " التوسيط" هو أقرب إلى طبيعة " تمديدية " ( أي يصبغ الأشياء بصبغة مادية ) منها إلى طبيعة تجريدية.
ب- ملازمة اللاعقلانية للعقل المجرد:
يسود اعتقاد بأن العقل المجرد يفرز عقلانية خالصة لا تشوبها شائبة، وهذا الاعتقاد تنقضه الشواهد التالية التي نستخرجها من طبيعة الممارسة العملية واليومية.
v تجاوز النظريات العلمية بعضها لبعض: فلا يأتي على نظرية زمان حتى تكتشف جوانب لا عقلانية تحمل على اطراحها، بعد أن كانت مثالاً للنظرية العقلانية.
v خلو بعض الأنساق من الضوابط المشهورة للعقلانية : يدعي البرهانيون التقليديون أن مبدأ عدم التناقض شرط ضروري في تحصيل العقلانية، والحق أن ما يكون سبباً في انتشار التناقض هو مجموعة من المبادئ الاستدلالية الخاصة، مثل " مبدأ استثناء عين المقدم" و " مبدأ لزوم أي شيء عن التناقض" و " ومبدأ لزوم الصحة عن كل شيء" . وليست هناك أية ضرورية منطقية في التقيد بهذه المبادئ الخاصة.
ويوجد من الأنساق ما يمكن بناءه بدون هذه المبادئ، وهذا يدل على تناقض في التقعيد لهذه الأنساق بهذه المبادئ.
v إباحة الضرورة العملية للأخذ بالمتناقضات: فقد تدعونا الأسباب اليومية إلى أن نعمل بأحكام متناقضة، وإلا هلكنا.
v عدم وجوب العقلانية المجردة: فليس هو المختص بالدلالة على الوحدة العقلية الإنسانية، وهو المستقل بتحديد معيار العقلانية دون غير، بل يمكن قيام غيره بذلك.
سوسن العتيبي
الأكثر مشاهدة
-
قد تقدم تلخيص لكتاب " روح الحداثة " ولم يكتمل لـ " حاجة في نفس يعقوب قضاها " ولعل الوقت المناسب يأتي لإعادة نشر ا...
-
من ألوان الحرب التى تشن الآن ضد الإسلام اعتباره طارئا على البلاد وفد عليها مع فاتحين غرباء، ثم استقر فيها على كره من أصحابها الأصلاء!!. ...
-
مفكر وناشط سياسي أمريكي، يُعتبر مُنظّر رئيسي لجناح اليسار هناك، معروف بانتقاده للسياسات الأمريكية ٧٧ جادة ماساتشو...
-
بعد أن عرجنا على مسألة "العولمة والهوية ومسألة المواكبة في التعليم العالي"، التي كانت قضية المنظمة العربية للتربية والثقافة و...
-
تخوض الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية تجربة الحكم في العديد من الأقطار العربية، وهي تجربة ستسهم بدون شك في زرع بذور النظرة الواقعية للأشياء لد...
-
شاءت الأقدار أن يلتقي سيد قطب بعباس محمود العقاد في مجالسه العلمية والثقافية ، وكان لهذا اللقاء أثر بارز على ثقافته وفكره وأدبه. ولم يكن ال...
-
Pour l’islamologue, Riyad pousse les intégristes afin de neutraliser les Frères musulmans et les forcer à négocier avec l’armée. Une lu...
-
أميركا الضعيفة وشبه العاجزة أخطر من أميركا القويّة والقادرة. طبعاً هذه المقولة متناقضة من حيث المنطق للوه...
-
الخبر السيئ أن يتحدث المجلس العسكري عن المتظاهرين والمعتصمين باعتبارهم بلطجية وعاطلين ومخربين. أما الخبر الأسوأ فأن يكون أعضاؤه مقتنعين...
-
أكد الدكتور عمار علي حسن الباحث بالشئون السياسية والدينية، مساء الخميس، أن الإسلام ليس محل تقسيم في مصر، منتقدا في هذا الصدد التصنيف الم...