Pages


لكي نفهم الشرق الأوسط

بتاريخ 00:38 بواسطة شجرة

كيف يتسنى لنا أن نستوعب ونفهم الأوضاع السائدة في الشرق الأوسط؟ الأمور تتغير بسرعة قياسية  كما أنها تسير في اتجاهات مختلفة إن لم نقل متناقضة ومتضاربة. إذا أرَدنا الحقيقة، فدائما ما بدت الأمور في الشرق الأوسط معقدة بل في غاية التعقيد، إلا أن إيجاد تفسير مقنع لما يحدث حاليا بات أمرا بعيد المنال ويزداد صعوبة مع كل يوم جديد تطلع فيه الشمس.

 على أرض الواقع، نشهد ظهور قوى فاعلة متعددة الانتماءات، كما تتجلى أمامنا تحدّيات مختلفة ومصالح  متناقضة؛ ما يجعلنا لا نستغرب من عجزنا على تفسير ما يحدث أو التكهن بنتائج الحركات الشعبية والتغيرات السياسية التي تشهدها حاليّا المنطقة العربية. فمن جهة، نرى بأن الديناميكيات الوطنية الجوهرية قد خلقت بين القوى المختلفة حالة توازن جديدة، وهذه الحالة أصبحت تترك آثاراً عميقة في كلّ من مصر، ليبيا، اليمن وفي سوريا، وأيضا في تونس والمغرب. ومن جهة أخرى، نجد دُولاً أجنبية مثل: الولايات المتحدة، إسرائيل، الدول الأوروبية، الصين، روسيا وحتى تركيا وقطر متورطة في الوضع، بكيفيّات مختلفة وعلى مستويات متعددة. إمّا بمحاولة التأثير في الأحداث  الجديدة والدفع بها إلى المزيد من التطور والحركية، و إمّا بمحاولة السيطرة عليها وتقييدها بكل الوسائل الممكنة -وعلى قدر المستطاع- وهذا حسب المصالح الإيديولوجية، أو الاقتصادية، أو السياسية لكل واحدة من هذه الدول.

نحن نتذكر كيف خرج الملايين من الأشخاص، في تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا وسوريا، للمناداة والمطالبة   بالحرية والعدالة. النتائج الأولية للمنافسة السياسية في كلٍّ من تونس والمغرب (حيث تم استحداث العديد من الإصلاحات لتجنب حدوث ثورة شعبية) وكذلك في مصر؛ أظهرت تقدما واضحا للإسلاميين. البعض يعتقد، وفي خضم استحواذ الإسلاميين على أغلبية المقاعد السياسية؛ أن الثورات الشعبية قد أُجبِرت على تغيير مسارها. فيما يرى آخرون ضرورة احترام هذه النتائج ويطالب بالمحافظة عليها، باعتبارها نِـتاجُ عملية ديمقراطية حقيقية وتاريخية. اليوم نجد أنفسنا أمام حقيقة لم يعُد مُمكنًا تجاهلها أو إخفاؤها: يبقى الإسلاميون في هذه الدول التي تقطنها أغلبية مسلمة؛ أكبر القوى السياسية وأكثرها حضورا على الساحة الشعبية. شئنا أم أبينا، يحظى  الإسلاميون بشرعيّة تاريخية باعتبارهم أصحاب فضل في معارضةٍ جعلتهم يدفعون أكبر وأغلى ثمن من أجل الوقوفِ ضد الدكتاتورية السائدة إلى وقت قريب في المنطقة العربية، والعملِ على إزالتها: فقد شهد تاريخ نضالهم، الذي استمر لأكثر من نصف قرن، كل أنواع الترهيب والقمع؛ من سجون وتعذيب ونفي وإعدامات علنية وسرية. إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: ما الذي يمكن أن نتوقع حدوثه في هذه الدول التي اختارت الدفع بالإسلاميين للحكم؟ والسؤال الأهم: كيف سيتسنى للقوى الكبرى الفاعلة في عالمنا هذا السيطرة على الواقع الجديد الذي أفرزته الانتخابات الأخيرة؟

سيكون من السذاجة المبالغ فيها أن نعتقد أو أن نظن أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية والصين وروسيا وحتى تركيا باقيةٌ مكتوفة اليدين ودون تدخّل بشكل أو بآخر في ما يجري من منافسة (واتفاقات سياسية وتنازلات  متبادلة) بين الإسلاميين والعسكر وحلفائهم التقليديين. من جهتها إسرائيل لن تسمح أبدا من أن ينحصر دورها في دور الـمُشاهِد غير المؤثر فيما يحدث في الشرق الأوسط. سنَدُها الأكثر قوة وإصرارا والمتمثل في الولايات المتحدة يعمل ليل نهار وبكل ما أوتي من قوة وإمكانيات على فرض السيطرة بشكل أو بآخر على الأوضاع السائدة في الشرق الأوسط.

-       ما طبيعة الاتفاقيات المفترضة: ما بين الحكومات الغربية والشرقية وبين مختلف الجيوش التابعة لهذه الدول والإسلاميين؟ الجميع يعلم وقبل إجراء الانتخابات أن تلك الأحزاب الإسلامية القديمة والتي دائما ما كانت تُظهَر في صورة شيطانية، سوف تفوز بالانتخابات في تونس والمغرب ومصر دون أن يعمل أيّ من تلك الأطراف المؤثرة على منعها من الفوز والظهور كقوة سياسية فاعلة. فلماذا فضّلوا عدم التدخل؟

الإسلاميون تغيروا وحفظوا الدرس. منذ البداية ودائما ما كانوا على درجة كبيرة من البراغماتية (من المغرب إلى مصر إلى آسيا، مرورا بفلسطين) وقادرون على التأقلم مع التحديات السياسية الجديدة. يعلمون أن توازنات القوة في الشرق الأوسط تسير نحو التغيير والتبدل، وهم يُسيِّرون الأمور وفق المعطيات الجديدة. مع هذا فهُم يجدون أنفسهم أمام تطلعات ومطالب متناقضة: عليهم أن يظلوا أوفياء وملتزمين “بالمرجعيات الإسلامية” التي حملتهم إلى السلطة، وفي الوقت نفسه عليهم مواجهة الضغوطات الخارجية، والتي تحاول تقييم مدى ليونتهم والتزامهم باحترام العملية الديمقراطية ورؤيتهم الاقتصادية وكذا مواقفهم من إسرائيل. نحن نقرّ بأهمية النموذج التركي إلا أننا نظن أنه بعيد التحقق في الشرق الأوسط: الأمر يختلف إذْ أنّ دولة تركيا عاشت ظروفا تاريخية مختلفة عن نظيرتها في الشرق الأوسط ثم إنّ القوى الفاعلة في تركيا تبدو مختلفة عن نظيراتها العربية، والأمر مُشابه فيما يتعلق بالتحديات التي واجهتها وتواجهها تركيا وتلك التي نشهدها في البلدان العربية.

في العالم العربي، يبدو أن الوقت قد حان بالنسبة للإسلاميين؛ السعداء بنجاحاتهم الكبيرة في الانتخابات السياسية المتعاقبة، أن يشرعوا في التفكير في كيفية تسيير الفترة المقبلة. فقد يتعلق الأمر هنا ببداية المرحلة الأكثر حساسية في تاريخهم السياسي. قد يتعرضون لفقدان تلك المصداقية الدينية التي يتمتعون بها كمعارضة سياسية، أو قد يكون تحت الضغط الذي سيدفعهم إلى التغير والتأقلم مع الواقع السياسي الجديد إلى درجة تدفعهم إلى التخلي عن الجوهر المكوِّن لبرنامجهم السياسي أو التحول إلى مجرد شكل من النظم السياسية (والتي ستبدو بالتأكيد أقل فسادا وانحرافا من سابقتها) مغطاة ببعض الطلاء السطحي من المظاهر الإسلامية. إذا حدث هذا فيمكننا أن نصرح بالقول أن نجاحهم الذي تحقق مؤخّرًا ما هو إلا بداية لنهايتهم.

يعتبر ما يحدث الآن في الشرق الأوسط أمرا في غاية الأهمية والتعقيد في آن واحد ويتعلق الأمر بشكل واضح  بمرحلة تحول عميقة وعسيرة تعيشها المنطقة. في ليبيا وخلف الكواليس نرى كيف تقوم مجموعة من الحكام الجُدد والافتراضيين وكذا نُظرائهم الغربيين، الذين ساعدوهم بتدخلاتهم العسكرية للوصول إلى الحكم، بالسيطرة على مستقبل البلاد. الشفافية بعيدة عن أن تصبح حقيقة في البلاد، فما يفترض أن يكون تدخلا من أجل “دوافع إنسانية” لم يكن إلا بدافع من المصالح الجيوستراتيجية التي تبدو لنا حاليّا، وبعد مرور الوقت، في منتهى الدقة والوضوح. ما كنا نتوقع حدوثه منذ وقت قريب أصبحنا الآن شهداء عليه. لا أحد يعرف كيف سيصاغ المستقبل في سوريا؟ الشعب السوري يرفض التخلي عن معركته؛ الآلاف من الأبرياء يُقتلون على يد عصابات النظام الديكتاتوري. حاولت إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوروبية وكذا إيران تجنّب النقاش بخصوص إمكانية تغيير نظام الحكم في سوريا، مع هذا فإن الواقع يؤكد عدم وجود خيار آخر أمام هذه الدول. هذا هو السبب الذي يجعل الوضعية المعقدة للشرق الأوسط تبدو مُربِكة ومثيرة للحيرة: تتميز هذه الوضعية بوجود كمّ هائل من عوامل الصراع.

 إذا سقط النظام السوري فستتحول إيران، حليفته الإستراتيجية في المنطقة، وبشكل متناقض، إما لخطر داهم أو لهدف أكثر سهولة وفي متناول هجمة قادمة من الغرب باعتبار أن ميزان القوى والتحالفات سيكون قد تغيّر وسقط. الحملة الدعائية الأخيرة ضد إيران يجب أن تُفهم وتُستوعب من هذا المنطلق ووفقا لهذا الواقع الخاص. لقد بدأت الحملة عندما طلب السعوديون من أمريكا أن “تقطع رأس الأفعى”، ثم مع محاولة الاغتيال المزعومة في الولايات المتحدة (يطلبون منا أن نصدّق أن إيران كانت تنوي اغتيال السفير السعودي في نيويورك!)، ثم باستعمال الاعتداء الذي حدث ضد السفارة البريطانية في طهران كمحاولة جديدة؛ تهدف لخلق تحالف دولي ضد إيران. في هذه الأثناء تحاول إيران التحرك على مستويات عدة ومختلفة كما تبنَّت إستراتيجية متعددة الأبعاد: تحاول إيران الحصول على الدعم كما تسعى لإقامة علاقات ترقى لمستوى الثقة، وهذا في حدود المنطقة وعلى مستوى العالم. العقدة تزداد إحكاما والوضع يصبح كل يوم أكثر إثارة للقلق بالنسبة للنظام الحالي. رغم نقص الحرية والشفافية على المستوى الوطني فإن إيران تظل تسيطر على الوضع بامتلاكها لبعض الحلفاء ولعددٍ من الأوراق القوية والرّابحة. هل سنشهد ظهور قوى ديمقراطية عالمية وشعبية قادرة على التعبئة من أجل تغيير نظام الحكم في إيران أم أن الأمر سيتحول إلى جبهة جديدة مفتوحة على الحرب؟ الأكيد أن لا شيء مؤكدا في أيامنا هذه.

أيًّا كان المستقبل في هذا الشرق الأوسط الممتلئ بالانقلابات والاضطرابات السياسية، فإن القوى السياسية الجديدة الفاعلة ستُحاسب من طرف “المجتمع الدولي” وفق ثلاث مقاييس ذات أولوية أساسية: ستحاسب عن نوع النظام والقواعد الاقتصادية التي ستعمل وفقها، ستُسأل وستُحاسب عن موقفها من إسرائيل، بالإضافة إلى موقفها من الانقسامات الشيعية السنية في داخل البلدان ذات الأغلبية المسلمة.    أن نفهم الشرق الأوسط يعني أن نُبقي هذه العوامل الثلاثة في الذهن وبعين الاعتبار. بالنسبة لبعض المسائل  فبإمكان الإسلاميين إظهار ليونة وفعالية قد تتجاوز التوقعات (بالتأكيد باستثناء ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي) في الوقت الذي تتعرض فيه جغرافية الشرق الأوسط إلى تغييرات جذرية. مع هذا، كان الأمر يتعلق  بالسياسة أو لا، فإن الشعوب المسلمة مطالبة بمواجهة هذا الواقع المتأزم والمخيف. أكبر التحديات التي تواجه الشعوب المسلمة ترتبط بالصراعات الداخلية وبالخصوص بما يتعلق بالتقسيم والمنافسة ( غير الصّحية تماما) بين السنة والشيعة. يتعلق الأمر هنا بواحدة من المسائل الأكثر أهمية في عصرنا هذا فلا يمكن أن نلوم غيرنا من كونهم أكثر قوةً وانتصارا؛ في الوقت الذي نتحمل فيه المسؤولية المباشرة والكاملة فيما وصلنا إليه من ضعف وخذلان وانهزامية.

الكاتب: طارق رمضان. ترجمة: فافة الشيخ صالح. مراجعة لغوية: يحيى الأطرش
موقع "يقظة فكر" 

الأكثر مشاهدة

Trending Template