Pages


لكي نفهم الشرق الأوسط


كيف يتسنى لنا أن نستوعب ونفهم الأوضاع السائدة في الشرق الأوسط؟ الأمور تتغير بسرعة قياسية  كما أنها تسير في اتجاهات مختلفة إن لم نقل متناقضة ومتضاربة. إذا أرَدنا الحقيقة، فدائما ما بدت الأمور في الشرق الأوسط معقدة بل في غاية التعقيد، إلا أن إيجاد تفسير مقنع لما يحدث حاليا بات أمرا بعيد المنال ويزداد صعوبة مع كل يوم جديد تطلع فيه الشمس.

 على أرض الواقع، نشهد ظهور قوى فاعلة متعددة الانتماءات، كما تتجلى أمامنا تحدّيات مختلفة ومصالح  متناقضة؛ ما يجعلنا لا نستغرب من عجزنا على تفسير ما يحدث أو التكهن بنتائج الحركات الشعبية والتغيرات السياسية التي تشهدها حاليّا المنطقة العربية. فمن جهة، نرى بأن الديناميكيات الوطنية الجوهرية قد خلقت بين القوى المختلفة حالة توازن جديدة، وهذه الحالة أصبحت تترك آثاراً عميقة في كلّ من مصر، ليبيا، اليمن وفي سوريا، وأيضا في تونس والمغرب. ومن جهة أخرى، نجد دُولاً أجنبية مثل: الولايات المتحدة، إسرائيل، الدول الأوروبية، الصين، روسيا وحتى تركيا وقطر متورطة في الوضع، بكيفيّات مختلفة وعلى مستويات متعددة. إمّا بمحاولة التأثير في الأحداث  الجديدة والدفع بها إلى المزيد من التطور والحركية، و إمّا بمحاولة السيطرة عليها وتقييدها بكل الوسائل الممكنة -وعلى قدر المستطاع- وهذا حسب المصالح الإيديولوجية، أو الاقتصادية، أو السياسية لكل واحدة من هذه الدول.

نحن نتذكر كيف خرج الملايين من الأشخاص، في تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا وسوريا، للمناداة والمطالبة   بالحرية والعدالة. النتائج الأولية للمنافسة السياسية في كلٍّ من تونس والمغرب (حيث تم استحداث العديد من الإصلاحات لتجنب حدوث ثورة شعبية) وكذلك في مصر؛ أظهرت تقدما واضحا للإسلاميين. البعض يعتقد، وفي خضم استحواذ الإسلاميين على أغلبية المقاعد السياسية؛ أن الثورات الشعبية قد أُجبِرت على تغيير مسارها. فيما يرى آخرون ضرورة احترام هذه النتائج ويطالب بالمحافظة عليها، باعتبارها نِـتاجُ عملية ديمقراطية حقيقية وتاريخية. اليوم نجد أنفسنا أمام حقيقة لم يعُد مُمكنًا تجاهلها أو إخفاؤها: يبقى الإسلاميون في هذه الدول التي تقطنها أغلبية مسلمة؛ أكبر القوى السياسية وأكثرها حضورا على الساحة الشعبية. شئنا أم أبينا، يحظى  الإسلاميون بشرعيّة تاريخية باعتبارهم أصحاب فضل في معارضةٍ جعلتهم يدفعون أكبر وأغلى ثمن من أجل الوقوفِ ضد الدكتاتورية السائدة إلى وقت قريب في المنطقة العربية، والعملِ على إزالتها: فقد شهد تاريخ نضالهم، الذي استمر لأكثر من نصف قرن، كل أنواع الترهيب والقمع؛ من سجون وتعذيب ونفي وإعدامات علنية وسرية. إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: ما الذي يمكن أن نتوقع حدوثه في هذه الدول التي اختارت الدفع بالإسلاميين للحكم؟ والسؤال الأهم: كيف سيتسنى للقوى الكبرى الفاعلة في عالمنا هذا السيطرة على الواقع الجديد الذي أفرزته الانتخابات الأخيرة؟

سيكون من السذاجة المبالغ فيها أن نعتقد أو أن نظن أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية والصين وروسيا وحتى تركيا باقيةٌ مكتوفة اليدين ودون تدخّل بشكل أو بآخر في ما يجري من منافسة (واتفاقات سياسية وتنازلات  متبادلة) بين الإسلاميين والعسكر وحلفائهم التقليديين. من جهتها إسرائيل لن تسمح أبدا من أن ينحصر دورها في دور الـمُشاهِد غير المؤثر فيما يحدث في الشرق الأوسط. سنَدُها الأكثر قوة وإصرارا والمتمثل في الولايات المتحدة يعمل ليل نهار وبكل ما أوتي من قوة وإمكانيات على فرض السيطرة بشكل أو بآخر على الأوضاع السائدة في الشرق الأوسط.

-       ما طبيعة الاتفاقيات المفترضة: ما بين الحكومات الغربية والشرقية وبين مختلف الجيوش التابعة لهذه الدول والإسلاميين؟ الجميع يعلم وقبل إجراء الانتخابات أن تلك الأحزاب الإسلامية القديمة والتي دائما ما كانت تُظهَر في صورة شيطانية، سوف تفوز بالانتخابات في تونس والمغرب ومصر دون أن يعمل أيّ من تلك الأطراف المؤثرة على منعها من الفوز والظهور كقوة سياسية فاعلة. فلماذا فضّلوا عدم التدخل؟

الإسلاميون تغيروا وحفظوا الدرس. منذ البداية ودائما ما كانوا على درجة كبيرة من البراغماتية (من المغرب إلى مصر إلى آسيا، مرورا بفلسطين) وقادرون على التأقلم مع التحديات السياسية الجديدة. يعلمون أن توازنات القوة في الشرق الأوسط تسير نحو التغيير والتبدل، وهم يُسيِّرون الأمور وفق المعطيات الجديدة. مع هذا فهُم يجدون أنفسهم أمام تطلعات ومطالب متناقضة: عليهم أن يظلوا أوفياء وملتزمين “بالمرجعيات الإسلامية” التي حملتهم إلى السلطة، وفي الوقت نفسه عليهم مواجهة الضغوطات الخارجية، والتي تحاول تقييم مدى ليونتهم والتزامهم باحترام العملية الديمقراطية ورؤيتهم الاقتصادية وكذا مواقفهم من إسرائيل. نحن نقرّ بأهمية النموذج التركي إلا أننا نظن أنه بعيد التحقق في الشرق الأوسط: الأمر يختلف إذْ أنّ دولة تركيا عاشت ظروفا تاريخية مختلفة عن نظيرتها في الشرق الأوسط ثم إنّ القوى الفاعلة في تركيا تبدو مختلفة عن نظيراتها العربية، والأمر مُشابه فيما يتعلق بالتحديات التي واجهتها وتواجهها تركيا وتلك التي نشهدها في البلدان العربية.

في العالم العربي، يبدو أن الوقت قد حان بالنسبة للإسلاميين؛ السعداء بنجاحاتهم الكبيرة في الانتخابات السياسية المتعاقبة، أن يشرعوا في التفكير في كيفية تسيير الفترة المقبلة. فقد يتعلق الأمر هنا ببداية المرحلة الأكثر حساسية في تاريخهم السياسي. قد يتعرضون لفقدان تلك المصداقية الدينية التي يتمتعون بها كمعارضة سياسية، أو قد يكون تحت الضغط الذي سيدفعهم إلى التغير والتأقلم مع الواقع السياسي الجديد إلى درجة تدفعهم إلى التخلي عن الجوهر المكوِّن لبرنامجهم السياسي أو التحول إلى مجرد شكل من النظم السياسية (والتي ستبدو بالتأكيد أقل فسادا وانحرافا من سابقتها) مغطاة ببعض الطلاء السطحي من المظاهر الإسلامية. إذا حدث هذا فيمكننا أن نصرح بالقول أن نجاحهم الذي تحقق مؤخّرًا ما هو إلا بداية لنهايتهم.

يعتبر ما يحدث الآن في الشرق الأوسط أمرا في غاية الأهمية والتعقيد في آن واحد ويتعلق الأمر بشكل واضح  بمرحلة تحول عميقة وعسيرة تعيشها المنطقة. في ليبيا وخلف الكواليس نرى كيف تقوم مجموعة من الحكام الجُدد والافتراضيين وكذا نُظرائهم الغربيين، الذين ساعدوهم بتدخلاتهم العسكرية للوصول إلى الحكم، بالسيطرة على مستقبل البلاد. الشفافية بعيدة عن أن تصبح حقيقة في البلاد، فما يفترض أن يكون تدخلا من أجل “دوافع إنسانية” لم يكن إلا بدافع من المصالح الجيوستراتيجية التي تبدو لنا حاليّا، وبعد مرور الوقت، في منتهى الدقة والوضوح. ما كنا نتوقع حدوثه منذ وقت قريب أصبحنا الآن شهداء عليه. لا أحد يعرف كيف سيصاغ المستقبل في سوريا؟ الشعب السوري يرفض التخلي عن معركته؛ الآلاف من الأبرياء يُقتلون على يد عصابات النظام الديكتاتوري. حاولت إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوروبية وكذا إيران تجنّب النقاش بخصوص إمكانية تغيير نظام الحكم في سوريا، مع هذا فإن الواقع يؤكد عدم وجود خيار آخر أمام هذه الدول. هذا هو السبب الذي يجعل الوضعية المعقدة للشرق الأوسط تبدو مُربِكة ومثيرة للحيرة: تتميز هذه الوضعية بوجود كمّ هائل من عوامل الصراع.

 إذا سقط النظام السوري فستتحول إيران، حليفته الإستراتيجية في المنطقة، وبشكل متناقض، إما لخطر داهم أو لهدف أكثر سهولة وفي متناول هجمة قادمة من الغرب باعتبار أن ميزان القوى والتحالفات سيكون قد تغيّر وسقط. الحملة الدعائية الأخيرة ضد إيران يجب أن تُفهم وتُستوعب من هذا المنطلق ووفقا لهذا الواقع الخاص. لقد بدأت الحملة عندما طلب السعوديون من أمريكا أن “تقطع رأس الأفعى”، ثم مع محاولة الاغتيال المزعومة في الولايات المتحدة (يطلبون منا أن نصدّق أن إيران كانت تنوي اغتيال السفير السعودي في نيويورك!)، ثم باستعمال الاعتداء الذي حدث ضد السفارة البريطانية في طهران كمحاولة جديدة؛ تهدف لخلق تحالف دولي ضد إيران. في هذه الأثناء تحاول إيران التحرك على مستويات عدة ومختلفة كما تبنَّت إستراتيجية متعددة الأبعاد: تحاول إيران الحصول على الدعم كما تسعى لإقامة علاقات ترقى لمستوى الثقة، وهذا في حدود المنطقة وعلى مستوى العالم. العقدة تزداد إحكاما والوضع يصبح كل يوم أكثر إثارة للقلق بالنسبة للنظام الحالي. رغم نقص الحرية والشفافية على المستوى الوطني فإن إيران تظل تسيطر على الوضع بامتلاكها لبعض الحلفاء ولعددٍ من الأوراق القوية والرّابحة. هل سنشهد ظهور قوى ديمقراطية عالمية وشعبية قادرة على التعبئة من أجل تغيير نظام الحكم في إيران أم أن الأمر سيتحول إلى جبهة جديدة مفتوحة على الحرب؟ الأكيد أن لا شيء مؤكدا في أيامنا هذه.

أيًّا كان المستقبل في هذا الشرق الأوسط الممتلئ بالانقلابات والاضطرابات السياسية، فإن القوى السياسية الجديدة الفاعلة ستُحاسب من طرف “المجتمع الدولي” وفق ثلاث مقاييس ذات أولوية أساسية: ستحاسب عن نوع النظام والقواعد الاقتصادية التي ستعمل وفقها، ستُسأل وستُحاسب عن موقفها من إسرائيل، بالإضافة إلى موقفها من الانقسامات الشيعية السنية في داخل البلدان ذات الأغلبية المسلمة.    أن نفهم الشرق الأوسط يعني أن نُبقي هذه العوامل الثلاثة في الذهن وبعين الاعتبار. بالنسبة لبعض المسائل  فبإمكان الإسلاميين إظهار ليونة وفعالية قد تتجاوز التوقعات (بالتأكيد باستثناء ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي) في الوقت الذي تتعرض فيه جغرافية الشرق الأوسط إلى تغييرات جذرية. مع هذا، كان الأمر يتعلق  بالسياسة أو لا، فإن الشعوب المسلمة مطالبة بمواجهة هذا الواقع المتأزم والمخيف. أكبر التحديات التي تواجه الشعوب المسلمة ترتبط بالصراعات الداخلية وبالخصوص بما يتعلق بالتقسيم والمنافسة ( غير الصّحية تماما) بين السنة والشيعة. يتعلق الأمر هنا بواحدة من المسائل الأكثر أهمية في عصرنا هذا فلا يمكن أن نلوم غيرنا من كونهم أكثر قوةً وانتصارا؛ في الوقت الذي نتحمل فيه المسؤولية المباشرة والكاملة فيما وصلنا إليه من ضعف وخذلان وانهزامية.

الكاتب: طارق رمضان. ترجمة: فافة الشيخ صالح. مراجعة لغوية: يحيى الأطرش
موقع "يقظة فكر" 

أشهر مقالات "روبرت فيسك" لعام2011

نشرت صحيفة (جارديان) البريطانية اليوم أكثر المقالات قراءة للكاتب والمحلل السياسي الشهير"روبرت فيسك"، المختص بشئون الشرق الأوسط والتي  حازت الاهتمام العالمي، وهو ما كشفه استطلاع الصحيفة حول أكثر المقالات قراءة وتعليقا.
وتعتبر مقالة فيسك بعنوان "سكرات موت الديكتاتورية في مصر"، بتاريخ 30 يناير، وقبل تنحى الرئيس المصري السابق حسني مبارك، أكثر هذه المقالات قراءة وتعليقا، والتي تناول فيها بوادر دعم الجيش للشعب ضد نظام مبارك.
وتلتها مقالة "الحقيقة حول وحشية تونس" بتاريخ 17 يناير, وقال فيها فيسك إن إراقة الدماء والدموع لا جدوى منها في تحقيق الديمقراطية بالرغم من سقوط  الديكتاتور "زين العابدين بن علي".
وتأتي مقالة "أولا صدام حسين ثم القذافي, من سيكون طاغية الغرب المفضل" في المرتبة الثالثة بتاريخ 19 مارس, أي قبل وفاة الزعيم الليبي معمر القذافي وبعد أيام من موافقة مجلس الأمن الدولي, لحماية المدنيين في ليبيا من القوات الموالية لمعمر القذافي.
وحازت مقالة فيسك بعنوان "هل باكستان خائنة لأنها كانت تعلم مكان بن لادن؟" إعجاب القراء والتي أكد بها أن "أسامة بن لادن" أصبح لا وجود له, لأن الثورات الجماهيرية في العالم العربي, تعني أن تنظيم القاعدة مات بالفعل سياسيا.
وتليهم مقالة "من يهتم في الشرق الأوسط بما يقول أوباما؟" والتي أكد فيسك بها أن الرئيس أوباما ظهر ضعيفا في تعاملاته مع الشرق الأوسط هذا العام والذي سيؤدي بالضرورة إلى ضعف النفوذ الأميركي في المستقبل.
ثم مقالة "كيف يمكن إبعاد مستشار أن يسقط "محمود أحمدي نجاد"؟" والتي تناول فيها فيسك أسباب الاستقالة المحتملة للرئيس الإيراني "أحمدي نجاد"، بسبب الأزمة السياسية التي تورط فيها الأصدقاء المقربون منه.
وأعجب القراء بمقالة "10 أعوام، ونحن نكذب على أنفسنا متجاهلين السؤال الحقيقي" والتي ناقش فيها فيسك التقرير الرسمي عن أحداث يوم 11 سبتمبر متسائلا عما إذا كان قد قيل لنا الحقيقة حول ذلك اليوم الذي غير العالم إلى الأبد.
وتعد مقالة "لن يكون الشرق الأوسط نفسه مرة أخرى" من أقوى المقالات التي توقع بها فيسك أن الدولة الفلسطينية لن تنجح في إقامة دولة فلسطينية وتصبح عضوا في الأمم المتحدة.
وأشار فيسك في مقالته القوية "هل يمكن توجيه اللوم للقذافي لاعتقاده أنه واحد من الرجال الصالحين" إلى أن القذافي كان ضابطا يعرف بالحبيب في وزارة الخارجية بعد الانقلاب ضد الملك إدريس، ثم أصبح مكروها لأنه أرسل أسلحة إلى الجيش الجمهوري الأيرلندي, فتساءل فيسك "هل يمكن إلقاء اللوم على القذافي لأنه كان يفكر أنه رجل صالح؟
".


أمانى زهران
http://www.alwafd.org/

الثورة السورية والبنية الإقليمية الشيعية



كان عالم الاجتماع العراقي الراحل الدكتور علي الوردي (1913-1995) من الباحثين العرب الجادين الذين حاولوا فهم الإشكال السني الشيعي بمنطق التحليل التاريخي، بعيدا عن النفَس الطائفي.

فقد أوضح الوردي في دراسته لنفسية الفرد العراقي كيف يتحول الدين أحيانا في السياق الطائفي الملتهب إلى هوية مغلقة ومجردة من أي التزام أخلاقي، وتوصل إلى أن الإنسان العراقي "أقل الناس تمسكا بالدين، وأكثرهم انغماسا بين المذاهب الدينية، فتراه ملحدا من ناحية وطائفيا من ناحية أخرى" (علي الوردي: شخصية الفرد العراقي، ص 47)، لقد "ضعفت نزعة التدين في أهل العراق وبقيت فيهم الطائفية: حيث صاروا لا دينيين وطائفيين في آن واحد، وهنا موضع العجب" (علي الوردي: وعاظ السلاطين، ص 260)


وتذكرنا ملاحظات الوردي هنا بقول الكاتب الأيرلندي جوناثان سويفت (1667-1745): "لدينا من التدين ما يكفي ليبغِّض بعضَنا إلى بعض، لكن ليس لدينا منه ما يكفي ليحبِّب بعضنا إلى بعض".

وقد يكون في حكم الوردي هنا تعميم مجحف، فالتعصب الديني الممزوج بضعف التدين ليس عاما في أهل العراق، ولا هو خاص بالعراقيين دون الشعوب الأخرى. لكن الوردي يلفت النظر إلى ظاهرة عامة جديرة بالتأمل، وهي تحوًّل الأديان والمذاهب الدينية أحيانا إلى مجرد هوية وعصبية سياسية متجردة من أي مغزى أخلاقي أو رسالة إنسانية.

وتنطبق هذه الظاهرة على حكام دمشق اليوم أكثر من أي حكام عرب آخرين، فهم يجمعون بين انعدام التدين والتعصب الطائفي الذي يصل حد الفاشية.

لكن الأكثر إثارة في نظرات علي الوردي -وهو المنحدر من أسرة شيعية- هو تحليله للتشيع باعتباره مخزونا نفسيا واجتماعيا. فقد شبّه الوردي التشيع بالبركان الخامد الذي يُتوقع ثورانه في كل لحظة، فكتب منذ عقود يقول: "إنهم (الشيعة) اليوم ثوار خامدون، فقد خدرهم السلاطين، وحولوا السيوف التي يقاتلون بها الحكام قديما إلى سلاسل يضربون بها ظهورهم، وحرابا يجرحون بها رؤوسهم، ومن يدري فقد يأتي عليهم يوم تتحول فيه هذه السلاسل والحراب إلى سيوف صارمة من جديد... إن موسم الزيارة في كربلاء يمكن تشبيهه بموسم الحج لكثرة الوافدين إليه، هذا ولكن الزيارة الشيعية تختلف من بعض الوجوه عن الحج، إذ هي تحمل في باطنها بذرة من الثورة الخامدة، ومن يشهد هرج الزوار في كربلاء يدرك أن وراء ذلك خطرا دفينا... شبهنا التشيع في وضعه الراهن بالبركان الخامد، فهو قد كان في يوم من الأيام بركانا ثائرا، ثم خمد على مرور الأيام، وأصبح لا يختلف عن غيره من الجبال الراسية إلا بفوهته والدخان المتصاعد منها، والبركان الخامد لا يخلو من خطر رغم هدوئه الظاهر، إنه يمتاز على الجبل الأصم بكونه يحتوي في باطنه على نار متأججة، ولا يدري أحد متى تنفجر هذه النار مرة أخرى." (الوردي: وعاظ السلاطين، ص 255).

ومن الواضح أن البركان الشيعي الخامد الذي تحدث عنه الوردي منذ عقود قد انفجر انفجارا مدويا، وألقى بحممه إلى أصقاع بعيدة. وكانت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 والانفجار الطائفي الدموي في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003 تحقيقا لنظرات الوردي الصائبة.

فقد فتح البركان الخامد فوهته على مصراعيها، فغطى إيران بلهبه، وألقى بحممه فأحرق العراق، وامتد حريقه إلى بلدان أخرى عديدة. ولا يكفي تفسير هذا الانفجار البركاني بظلم الشاه أو بدور الاحتلال الأميركي للعراق-رغم خطورتهما- فقد عانت شعوب عديدة من الاستبداد ومن الاستعمار فلم تكن ثمرات ذلك انفجارا بهذه الروح والمزاج، وإنما يحتاج الأمر إلى أخذ ذلك المخزون النفسي الذي تحدث عنه الوردي في الاعتبار.

وقد نال سوريا حظها من انفجار البركان الشيعي الخامد، لكن هذا البركان لم يثر في سوريا في صيغة ثورة مدوية على النمط الإيراني، أو في صيغة حرب أهلية على النمط العراقي، وإنما اتخذ في سوريا صيغة تسرب هادئ إلى قمة الجبل، وتحكمٍ فيها دون ضجيج، وإنما أسفر الإحياء الشيعي في سوريا عن وجهه البركاني في مذابح حماة وتصفيات سجن تدمر المروعة.

وربما كان الشيعة اللبنانيون الذين تحول بركانهم إلى سياط في ظهر إسرائيل هم الاستثناء الذي لم تتجه حمم بركانه إلى الداخل العربي المسلم بشكل عنيف، رغم المناوشات التي بدت على السطح من حين لآخر.

وبدخول إيران في حلف مع سوريا مطلع الثمانينيات، ثم انضمام العراق إلى ذلك الحلف بعد ثلاثة عقود، وانبعاث الشيعة اللبنانيين -بصعودهم الاجتماعي وريادتهم في مقاومة إسرائيل- اكتملت حلقات ما دعاه والي نصر "صحوة الشيعة" في كتابه المعنون بهذه العنوان، واستحكمت حلقات بنية إقليمية شيعية قوية، تمتد من طهران إلى بيروت، مرورا ببغداد ودمشق.

بيد أن هذه البنية التي تحولت تمددا إيرانيا في الفراغ الإستراتيجي العربي لم تحسن التعامل مع أهم حدث في تاريخ العرب الحديث، وهو ربيع الثورات العربية الذي نعيشه اليوم. لقد استغرب كثيرون من أهل الرأي والقلم -ومنهم من يمقُت الطائفية كما أمقُتُها- إجماع الأطراف الإقليمية الشيعية اليوم على الاصطفاف مع نظام الأسد في فظائعه ضد الشعب السوري:

* فقد وقفت إيران بعنجهية وعناد مع نظام الأسد الذي اعتبرته حليفا لا يمكن التفريط فيه، ولم ترفَّ أجفان القادة الإيرانيين ولا رقت قلوبهم أمام مشاهد الشباب السوري الذي تحصده آلة الموت الأسدية حصدا. والعجب أن تحاول إيران القيام بدور الغرب الاستعماري في حماية الدكتاتورية في وقت اضطر فيه الغرب نفسه إلى الخجل من هذا الدور القذر والتملص منه.

ليس من ريب أن هذا دليل على تخلف الحكام الإيرانيين في قراءتهم للمسار التاريخي الذي تتجه إليه المنطقة اليوم، وجهلهم بعواقب ذلك على دولتهم الصاعدة التي يتقاذفها الأعداء من كل جانب.

* وتحول حسن نصر الله إلى بوق للنظام الدموي في دمشق، وأصبح الرجل الذي كان ملهما للشباب العربي وجها باهتا من حماة الطغيان ودعاته، فغدت طلعاته الإعلامية تسويغا للظلم وتشريعا للقتل، بعد أن كانت بالأمس القريب بريق أمل في بحر من ظلمات الهوان. وكما هو حال إيران فقد ركب حزب الله المهالك في وقوفه إلى جانب القتلة في سوريا، إذ رجح مصلحته التكتيكية في الحلف مع نظام الأسد على مصلحة إستراتيجية أكبر هي الالتحام بعمق شعبي سوري وعربي توفره له الثورات.

* أما القوى الشيعية في العراق فقد تردد موقفها بين الصفاقة التي برر بها مقتدى الصدر دموية الأسد واتهم الثوار السوريين بالطائفية -ربما من باب قول العرب: "رمتني بدائها وانسلت"- إلى الموقف المراوغ الذي تبناه نوري المالكي مراعاة لتوازنات السياسة الداخلية العراقية.

لقد تناسى المالكي كل صراعه مع حكام سوريا، واتهامه لهم بدعم المقاومة العراقية، حينما أصبح ما يعتبره مكسبا طائفيا في خطر، وهو حكم العلويين لسوريا. وقد نهج المالكي في الفترة الأخيرة نهج الغموض الإستراتيجي في القضية السورية، فهو يجامل الداخل العراقي والجامعة العربية بجمل منمقة حول أهمية السلم الأهلي في سوريا، ويسعى لإنقاذ حكم الأسد المتداعي بكل ما يملك.

إن الاستبداد هو الذي فرق بين السنة والشيعة، وبين العرب والإيرانيين، وهو استبداد قد يلبس عمامة فقهية أو خوذة عسكرية، لكنه هو الاستبداد ذاته بوجهه القبيح. ولن يجمع بين الطرفين سوى الحرية والاعتراف بحق الاختلاف. فلن يسعف الأسدَ الملطخ اليدين بدماء شعبه أن يسحب العلويين إلى حرب أهلية مع شعبهم، أو يتترس بحلف إقليمي مذهبي لا يملك من الانتماء إليه سوى الاسم والمصلحة الأنانية. ولن يكون الرد المناسب على اصطفاف البنية الإقليمية الشيعية وراء مصاصي الدماء في دمشق هو اصطفاف إقليمي سني مقابل، بل الرد الحقيقي هو ما رد به ثوار سوريا من نقض المنطق الطائفي، والتصميم على تحقيق دولة الحرية والعدل للجميع مهما يكن الثمن. فليس يهم مذهب الظالم أو مذاهب المظاهرين له، وإنما المهم هو الأخذ على يد الظالم، وقسره على الحق والعدل قسرا.

ربما يكون قدَر بلاد الشام -الجميلة بتاريخها وأهلها- أن تكون مركز تجاذب أبدي. فقد تنازعها الفرس واليونان، ثم الفرس والرومان، ثم العرب والروم، ثم الترك والفرنجة، ثم الترك والروم، ثم الفرنسيون والإنجليز.. وكانت -ولا تزال- موطن تنازع طائفي وثراء ديني وثقافي كثيف.

لكن الربيع العربي الحالي فرصة تاريخية للمصالحة مع الذات ومع الغير، بميلاد فضاء من الحرية يسع الجميع، بما في ذلك تمكين الشيعة من الخروج من أسر المظلومية والذاكرة الموتورة إلى الاندماج في جسد الأمة من جديد، دون خوف من الاضطهاد، أو تنازل عن الخصوصية الفكرية والفقهية.

فرط قادة الشيعة في إيران والعراق ولبنان فيما تحمله الثورات العربية من إمكان التئام الجرح الطائفي المزمن، وبناء دولة المواطَنة الرحبة التي لا مِنّة فيها لأحد على أحد، ولا تمييز فيها على أساس الدين أو المذهب

لكن مواقف القوى الإقليمية الشيعية من الثورة السورية يوشك أن يحول هذه الفرصة التاريخية إلى سراب. لقد تحول حامل راية المظلومية التاريخية إلى ظالم أو مُظاهِر للظلم، وفرط قادة الشيعة في إيران والعراق ولبنان فيما تحمله الثورات العربية من إمكان التئام الجرح الطائفي المزمن، وبناء دولة المواطَنة الرحبة التي لا منة فيها لأحد على أحد، ولا تمييز فيها على أساس الدين أو المذهب.

لقد سمعتْ البشرية كلها -عبر القنوات الفضائية والشبكة الإلكترونية- ذلك الرجل السوري الذي يأخذ بنياط القلوب، وهو يصرخ: "أنا إنسان.. ماني حيوان". وهو يذكرنا بالإفريقي الأسود في أميركا الستينيات الذي كان يحمل على صدره لافتة كتب عليها نفس الجملة البسيطة العميقة المؤلفة من كلمتين: "أنا إنسان". وهذا المدخل الإنساني هو الذي كان يتعين على قادة الشيعة أن يتدبروا به الثورة السورية. أما المثنوية والأنانية السياسية والكيل بمكيالين فهي أمور لا تصلح في التعاطي مع ثورات شعوب تسقي شجرة الحرية كل يوم بدمائها، وإنما يصلح للتعاطي مع هذه الثورات موقف أخلاقي صُراح لا ازدواجية فيه ولا التواء، موقف يُعاضِد كل الشعوب الطامحة إلى العدل والحرية، من صنعاء إلى حمص، ومن المنامة إلى طرابلس الغرب. موقف لا يرى في الإنسان العربي الثائر من أجل الحرية والكرامة سنيا أو شيعيا، مسلما أو مسيحيا، بل يرى فيه إنسانا مجردا، يسعى إلى الاعتراف بإنسانيته.

لقد أمسكت الشعوب العربية بزمام تاريخها، وهي مصممة على التخلص من الغزاة والطغاة والغلاة، سنة كانوا أو شيعة، مسلمين أو مسيحيين.. فهل يدرك حكماء الشيعة ذلك ويلتحموا بتيار التاريخ الجارف قبل فوات الأوان؟ وهل يتداركون مخاطر الهوة التي يقودهم إليها أسدٌ ظالم، مجروح الكبرياء، غارق في الدماء؟

محمد بن المختار الشنقيطي

الجزيرة نت

تحولات السلفيين.. والإخوان أيضا



فاجأت مذيعة في إحدى الفضائيات المصرية مرشحا سلفيا من قيادات حزب النور بعد نهاية الانتخابات التي صعد من خلالها للدورة الثانية ثم خسر أمام مرشح آخر، فاجأته بعرض شريط "فيديو" له يقول فيه إن الديمقراطية كفر، فارتبك الرجل بعض الشيء وراح يبرر موقفه القديم مقابل موقفه الجديد.

ولعل مشكلة التيار السلفي في مقارباته السياسية تتمثل في أنه -خلافا للإخوان- كان يعالج سائر القضايا السياسية من باب الحرام والحلال الحاسم في كثير من الأحيان، وليس على قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح التي تشكل العنوان الأبرز لكل ما يتعلق بإدارة الشأن العام كما ذهب العلامة (ابن القيم) باستثناءات محدودة.


هناك بالتأكيد مجموعات سلفية توصف بأنها إصلاحية كانت لها مقاربات سياسية جريئة، كما هو حال حزب الأمة في الكويت، وخالفت ما تعارفت عليه التيارات السلفية التقليدية التي تعد الأكثر انتشارا إذا أخذنا العالم العربي كمثال جامع.

في السياق السلفي العام رأينا عجبا عجابا فيما يتصل بالفقه السياسي، فقد رأينا كيف ذهبت مجموعات تنتمي إليه نحو تبرير قتال الأنظمة وكل المنضوين في سلكها خلال الثمانينيات، ثم أجرى مراجعات جذرية بعد ذلك، وفي الحالتين استنادا إلى الكتاب والسنة.

ومن قرأ كتابات الدكتور فضل أو سيد إمام الشريف التي كانت مرجع الجهاديين خلال الثمانينيات (أبرزها العمدة في إعداد العدة والجامع في طلب العلم الشريف)، ومن ثم مراجعاته بعد ذلك (وثيقة ترشيد العمل الجهادي) سيرى الروحية التي يتصرف بها جزء من هذا التيار!!

عندما قال شيخ (حزب النور) الذي أشرنا إليه في مطلع المقال ما قال في مقاربته الأولى التي عرضتها عليه المذيعة، وهو للمفارقة مهندس وليس شيخا تقليديا، لم يكن يخطر بباله أنه سيقف هذا الموقف في يوم من الأيام، فقد كان يعيش ظروفا مختلفة، وعموما يمكن القول إن الربيع العربي -بطبعته التي نعيش- قد فاجأ الكثيرين، بمن فيهم قيادات في الظاهرة الإسلامية.

كان بعضهم في التيار الإخواني قد تعايشوا مع مقولة الإصلاح التدريجي لأنظمة يستحيل إصلاح معظمها في واقع الحال، فيما تعايش السلفيون (معظمهم للدقة) مع الواقع القائم وفق نظرية "حاكم الغلب" الذي لا يجوز الخروج عليه ما أذن بالصلاة وليس ما أقام الصلاة، مع أن نتنياهو يأذن بالصلاة، بل بوجود حركة إسلامية أيضا. كما حرَّموا الأحزاب والانتخابات، فضلا عن المظاهرات وصولا إلى تحريم نقد الحاكم في العلن.

بالطبع ثمة فقه سلفي لا يزال مقيما على هذه المقولات، بما في ذلك في الساحة المصرية بعد الثورة، لكنه لن يلبث أن يغيرها (غالبا إذا رغب ولاة الأمر في ذلك!!)، تماما كما غير موقفه من جواز المشاركة في الانتخابات (تصويتا) وليس ترشيحا في الأردن مثلا، بل كما غير موقفه من قضايا فقهية تقليدية مثل الظهور على الفضائيات، فضلا عن إنشائها (كانوا يقولون بحرمة التصوير!!).

في الحالة المصرية شهدت الحالة السلفية تغيرات يمكن وصفها بأنها جذرية، فيما ستذهب تيارات سلفية أخرى في العالم العربي نحو ذات الوجهة، وأتذكر أن التيار السلفي السعودي (تيار الصحوة كما يعرف هناك) كان له ذات الموقف من الانتخابات، وعندما أجريت الانتخابات البلدية قبل سنوات تردد في الجولة الأولى ثم انخرط فيها خلال الجولة التالية، بينما بات الكثيرون من رموزه يدعون إلى إصلاحات بروحية ديمقراطية (ملكية دستورية في بعض الأحيان).

في الحالة الإخوانية رفض الإمام حسن البنا تأسيس حزب، لكن تنظيمات الإخوان في الدول العربية لم تلتزم تاليا بهذا الرأي، حيث بادرت إلى تأسيس أحزاب. وعموما يمكن القول إن الفقه الإخواني كان واضحا في انحيازه إلى نظرية المصالح والمفاسد في العمل السياسي، فكان أن تعددت اجتهادات فروع الجماعة في التعاطي مع الشأن السياسي، حتى تجاوز بعضها الخطوط الحمر في علاقاته وتحالفاته، كما هو حال العمل السياسي من خلال منظومة أنشأها الاحتلال كما فعل فرع الجماعة في العراق (رفضت ما فعله سائرُ فروع الجماعة الأخرى، وإن لم تتخذ موقفا صارما منه)، أو التحالف مع العسكر ضد فريق إسلامي آخر (جبهة الإنقاذ) كما هو حال حركة مجتمع السلم في الجزائر.

واقع الحال من الناحية الشرعية والتاريخية هو أن الإسلام (في رؤية أهل السنة) قد أعلى من شأن الأمة، واعتبر أن الحاكم موظف عند المسلمين يقوم على شأنهم ويتلقى أجرا مقابل ذلك، وهو ما كان خلال فترة الخلافة الراشدة عبر ما عُرف بالبيعة التي كانت الطريقة المتيسرة في ذلك الحين في ظل واقع الحياة البسيط المعروف (بخاصة وسائل النقل والاتصال). وقد كان ذلك تميزا عن الواقع السياسي المحيط في العالم الذي لم يعرف في تلك الأثناء سوى الإمبراطوريات الوراثية.

مع معاوية بن أبي سفيان بدأ الحكم العضوض، وذهب الفقه الإسلامي في بعض تجلياته نحو تبرير الواقع الجديد الذي انسجم عمليا مع السائد عالميا وابتعد عن روح الشريعة، لا سيما أن القرآن واضح كل الوضوح في جعل الأمر شورى بين المسلمين.

اليوم يستعيد الإسلاميون مقولة الولاية العامة للأمة عبر أطر ديمقراطية حديثة، وهي بالمناسبة ليست أطرا نهائية ويمكن تغييرها بحسب ظروف الزمان والمكان، بما فيها القيم الاجتماعية والدينية (مثال ذلك الاشتراطات المتعلقة بالدعاية واستخدام المال فيها، إلى غير ذلك من شروط تجعل الاختيار أقرب ما يكون إلى الحرية بعيدا عن التأثيرات المرفوضة)، ومعلوم أن قوانين الانتخابات وشروط الترشيح والدعاية تختلف بين بلد وآخر، إذ لم يتوصل العالم بعد إلى قانون عادل تماما، كما لم يتوصل إلى صيغة تفرض التصويت على جميع الناس، وسيأتي اليوم الذي يتحول فيه التصويت إلى مهمة تتعلق بكل شخص في ظل ثورة الاتصالات، من دون الحاجة إلى صناديق اقتراع لا يتجاوز فيها المشاركون حدود النصف في أكثر الأحيان.

من هنا، فإن ولاية الأمة هي العنوان الأبرز لحراك الإسلاميين السياسي، ومن العبث التشكيك في ذلك، لا سيما أن الوضع الجديد جاء نتاج ثورات شعبية وليس انقلابات عسكرية يمكن لأصحابها أن يتصرفوا بعدها كيف يشاؤون. وعموما سيكونون -كما غيرهم- أمام اختبار الجماهير التي لا تمنح أحدا شيكا على بياض، بل تنحاز إليه بقدر انحيازه إلى همومها في القضايا الداخلية والخارجية.

اليوم يركز طموح الإسلاميين -بل يجب أن يكون كذلك- على أن يتحقق الإجماع بشكل تدريجي على المرجعية الإسلامية للدولة المدنية، ويكون التنافس بين القوى بعد ذلك على هذا الأساس. وقد كان طموح الدكتور حسن الترابي في مسيرة الإنقاذ أن يكون التداول على السلطة ضمن إطار المرجعية الإسلامية، لكن شركاءه رفضوا ذلك وانقلبوا عليه هو أيضا، لا سيما أن المرجعية الإسلامية في السودان لا خلاف عليها عمليا بين سائر القوى الأساسية في الساحة.

من حق القوى الإسلامية أن تحشد الناس خلف برنامجها عبر الأطر الشعبية المستندة إلى التعددية، وليس من حق أحد أن يملي عليها شيئا بعد ذلك، وعلى سائر القوى أن تقبل بما تفرزه الصناديق. هذا هو المسار المتاح لتحقيق طموحات الأمة في العدالة والمساواة والوحدة ومواجهة المخططات الأجنبية.

فاصل بالغ الأهمية
فاجأ المتحدث باسم حزب النور (يسري حماد) الدوائر السياسية، لا سيما الإسلامية منها بتصريحات لإذاعة الجيش الإسرائيلي (يوم الأربعاء 21 ديسمبر/كانون الأول)، وهي خطوة بالغة الخطورة لجهة التطبيع مع العدو الصهيوني، (قال لصحيفة المصري اليوم "قلت لمراسل الراديو الإسرائيلي"، مما يقلل من إنكاره معرفة هوية المراسل بعد الضجة التي أحدثتها القصة).

أما الأسوأ فيتمثل في تصريحاته المتعلقة بالمعاهدات مع الدولة العبرية، والتي تجاوز مسألة احترامها إلى تأييد حل الدولتين بدعوى القبول بما قبل به الفلسطينيون، مع العلم أن حل الدولتين يعني الاعتراف بالكيان الصهيوني واحتلال لـ78% من أرض فلسطين التاريخية. ولا تسأل بعد ذلك عن تصريحات لقياديين آخرين لا تستبعد الجلوس مع الإسرائيليين، وهي التي رحبت بها الدوائر الإسرائيلية.

سيقول البعض إن الإخوان قد قالوا باحترام المعاهدات الدولية، ولكنهم أولا لم يصرحوا لوسيلة إعلام إسرائيلية، أما ثانيا فقد قالوا كلاما ينطوي على إمكانية إعادة النظر في "كامب ديفد" بما يخدم مصالح الشعب المصري.

وعموما نحن نرفض أي شكل من أشكال التلكؤ في رفض المعاهدة من حيث المبدأ لأن غالبية المصريين ترفضها، وإن تفهمنا القول إن أي موقف جديد منها سيؤخذ من خلال الأطر الدستورية التي قبل بها الجميع.

هذه التصريحات من طرف المتحدث باسم حزب النور تستدعي الاستنكار في واقع الحال، وتشير إلى عمق أزمة التيار الذي يتراجع بسرعة رهيبة عن الكثير من مبادئه من أجل السياسة والسلطة رغم أنه ليس مرشحا لاستلامها، أقله بشكل منفرد.

إذا كان قادة الحزب يعتقدون أنهم بتصريحاتهم ومواقفهم تلك يستجلبون رضا الغرب، فإن عليهم أن يتذكروا أنهم يفقدون بسببها ثقة المصريين وعموم الشارع العربي والإسلامي، وهو ما ينطبق على الإخوان وأية قوة سياسية لا تأخذ في الاعتبار مشاعر الأمة حيال الكيان الصهيوني، وكذلك الدول الغربية التي تناصب الأمة العداء .

ياسر الزعاترة

الجزيرة نت

الانتخاب فريضة وضرورة ولايجوز لأحد أن يكتم الشهادة

دعا فضيلة الشيخ يوسف القرضاوى رئيس الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين، جميع المصريين ألا يبيعوا أنفسهم وأصواتهم لأحد، وأن يذهبوا للانتخابات والإدلاء بأصواتهم.

ونقلت صحيفة أنبائكم الإلكترونية ما أكده القرضاوي: "الانتخاب فريضة وضرورة، وأن تؤدى صوتك بأمانة، ولايجوز لأحد أن يكتم الشهادة ومن يكتمها فإنة آثم قلبه".

شدد القرضاوي ـ أثناء لقائه فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر - على أنه لابد من الذهاب إلى الانتخابات ـ حتى على الاخوة المعتصمين فى ميدان التحرير ـ يجب عليهم الذهاب إلى الانتخاب، فالاعتصام لايمنع الانتخاب، فالمرحلة القادمة هى بناء الامة والسبيل إلى الدولة المدنية، ومن الناحية الاقتصادية فإننا قادمون على مرحلة خطيرة، وأن الأزهر له دور كبير فى التعلم والترشيد وهداية الامة .

قال القرضاوي: " لقد تحدثت مع فضيلة الأمام الأكبر عن دور مصر ودور شعب مصر فى الانتخابات المقبلة، فإنها مرحلة مهمة فى تاريخ هذه الأمة، وسوف تكون انتخابات لأول مرة نزيهه وحرة وشفافة"، بحسب موقع أخبار مصر.

أضاف القرضاوي : "مصر ليست وحدها فى هذا العالم فهى مرتبطة بجميع الدول العربية مثل سوريا وليبيا واليمن وغيرها فهى مرتبطة بالمنطقة العربية كلها والبلاد العربية مرتبطة بمصر وثورتها فأى ثورة فى مصر تتأثر بها كل البلاد العربية .

و ختم الشيخ القرضاوى لقائة بالإمام الأكبر بالدعاء له وللأزهر ولمصر، كما قال للصحفيين: "اسأل الله ان يوفقكم فى كلماتكم، فكلماتكم لها منزلتها وثقلها فى فكر الناس".

بالفيديو .. الأسواني: الإخوان والسلفيين هم الجناح السياسي للمجلس العسكري

قال الدكتور علاء الأسواني الكاتب والروائي،  أن ما حدث اليوم أمام مجلس الوزراء هو تصفية للثورة  التي جاءت بمطالب لا توافق نظام مبارك الذي أبقي عليه المجلس العسكري .

وأضاف أن الثورة المصرية بعد يوم 11 فبراير يوم التنحي  اعتبرت إزاحة مبارك عن الحكم هي الخطوة الأولي لإزاحة نظام مبارك أما المجلس العسكري فقد اعتبر أن التضحية بمبارك هي خطوة ضرورية للحفاظ علي نظام مبارك.

وأكد الأسواني أن ما يحدث خلال ال 10 أشهر الماضية ليس عملا عشوائيا ولكنه مخطط لإفراغ الثورة من مضمونها وطاقتها وقدرتها علي التغيير وعزل الكتل الثورية اللذين يموتون إلي الآن وهم الثوار الحقيقيون اللذين يدفعون حياتهم ثمنا لإنجاح الثورة مضيفا أن ما يحدث الآن هو الخطوة الأخيرة لإنهاء الثورة والقضاء عليها .

وعن حدوث الأزمات المتتالية قال ليست الثورة سببا لهذه الأزمات ولم تفتعلها لأن الثورة ليست هي التي تحكم البلاد وإنما المجلس العسكري هو من يحكم ولدية جميع السلطات التشريعية والتنفيذية .

وأشار إلي أن المجلس العسكري من أخطر ما فعله هو التشويه المتعمد لشباب الثورة وذلك لان المجلس يملك الآن جناح سياسي متمثل في الإخوان والسلفيين .



عمار علي حسن: التيارات الدينية مصيرها الانقسام والبرلمان القادم قد يحاصر الثورة



أكد الدكتور عمار علي حسن الباحث بالشئون السياسية والدينية، مساء الخميس، أن الإسلام ليس محل تقسيم في مصر، منتقدا في هذا الصدد التصنيف الموجود بالساحة حاليا الذي يقسم المصريين إلى مدنيين وعلمانيين وإسلاميين .

ونوه " بتأكيد المجلس العسكري الأعلى على مدنية الدولة وأن الانقسام سوف يصبح مصير الجماعات الدينية التي أثارت مثل هذه الاختلافات متوقعا أن البرلمان القادم الذي سيتولى تشريع القوانين سيؤدي على الأرجح إلى حصار للثورة ".

وأوضح حسن خلال ندوة أقامتها الليلة الماضية حملة حمدين صباحى الانتخابية:" أن ذلك الانقسام ظهر عقب دخول تلك الجماعات الدينية الساحة السياسة، حيث اتبعوا منهج الكر والفر والمبادرات وبالتالي غير بعضهم مجموعة من أفكاره".

مشيرا إلى أن الحصار الأمني قبل الثورة كان هو ما يصنع تماسكا بين أفراد هذه الجماعات، وأنه عندما تم إطلاق حريتهم طفت على السطح والاختلافات بينهم.

وأضاف :" إن الانتخابات بعد الثورات إما أن تكون مكسبا مضافا إلى الثورة أو مضادة للثورة"، ورأى " أن قيام البرلمان القادم بتشريع القوانين قد يسهم في محاصرة الثورة، خاصة مع احتمال أن يتمكن أعضاء الحزب الوطني المنحل من الفوز بنسبة كبيرة من مقاعده".

وأوضح حسن "إن التيار السلفي في مصر هو تيار تقليدي، وإنه بعد الثورة خرجت أحزاب من عباءة جماعة السلفيين إلا أن الجسم الأساسي مازال موجودا، ورغم عزوف بعض التيارات السلفية عن المشاركة في الحياة السياسية، إلا ان هناك تيارات تريد السياسة بقوة ".

وتابع بالقول إن "إتباع التيار الديني لم يتواجدوا في أيام الثورة الأولي خاصة يوم 25 يناير حتى حدث التحول الكبير في مسار الأحداث يوم 28 يناير ومن ثم دخلت التيارات الدينية في مرحلة تحصيل الحاصل".

وأوضح عمار علي حسن " انه منذ حكم مبارك كان ضد محاكمتهم عسكريا، وكان مؤمنا بحقهم في ممارسة السياسة في النور"، مشيرا إلى أن المواجهة تكون ببناء القواعد الراسخة للحكم المدني وتعميق التعليم وترسيخ الثقافة الحديثة.

بانتظار من يحترم عقولنا

الخبر السيئ أن يتحدث المجلس العسكري عن المتظاهرين والمعتصمين باعتبارهم بلطجية وعاطلين ومخربين.
 أما الخبر الأسوأ فأن يكون أعضاؤه مقتنعين بذلك.
الخبر الأول قدمه إلينا أمس الأول عضو المجلس العسكري اللواء عادل عمارة واستشهد في تأييد كلامه بتسجيلات مصورة قدمت لنا نماذج من أولئك البلطجية ومشاهد دالة على التخريب الذي حدث لبعض المنشآت العامة، وفي المقدمة منها مبنى المجمع العلمي المصري.
وشاءت الأقدار أن نشاهد على شاشات التليفزيون في مساء اليوم ذاته (الاثنين 19/12) نماذج أخرى من المتظاهرين تحدثت عنها بعض البرامج الحوارية. فعرفنا الكثير عن العالم الجليل الذي قتل بالرصاص الحي، والطبيب النادر الذي بكته كلية طب عين شمس.
والصيدلانية الشجاعة التي انهالوا عليها بالضرب وسحلوها، وعدد آخر من النشطاء والمهنيين والجامعيين الذين امتلأت بهم مستشفيات وسط البلد.
إضافة إلى مسؤول المستشفى الميداني الذي جرى تحطيمه، ونالته ضربة أدمت رأسه المعصوب.

لم يكن أي من المشهدين ينفي الآخر، لكننا فهمنا أن البلطجية والمخربين كانوا موجودين وأن المتظاهرين الغاضبين الذين لم تكن لهم علاقة بالتخريب، كانوا موجودين أيضا، وبعضهم رأيناه وهو يحاول إنقاذ بعض كتب ونفائس المجمع العلمي من الحريق،
والذي لا يستطيع أن ينكره أحد أن المتظاهرين السلميين كانوا هم الأصل، أما البلطجية ومن لف لفهم فإنهم كانوا استثناء، رغم أن الأخيرين هم الذين حظوا بالنصيب الأوفر من التغطية الإعلامية، سواء لأن ما فعلوه كان الأخطر والأكثر إثارة، أو لأن هناك من أراد أن يخُصُّهم بالإبراز لإدانة المتظاهرين وتشويه صورتهم.
على الأقل فذلك ما بدا من الشريط الذي عرضه عضو المجلس العسكري، الذي أراد أن يوحي لنا بأن المتظاهرين لم يكونوا سوى عصابات من «الشبيحة» الخارجين على القانون.

هذان الخبران، السيئ والأسوأ، لم يكونا كل ما في الأمر، لأن عضو المجلس العسكري في المؤتمر الصحفي عرض على مسامعنا ثنائية أخرى مماثلة.
إذ كانت خلاصة الخبر السيئ الآخر الذي أعلنه أن ثمة مخططا تخريبيا ممنهجا يتم تنفيذه على أرض مصر، مستهدفا إسقاط الدولة.
أما الخبر الأسوأ فإن أجهزة الأمن رغم علمها بذلك فإنها فشلت طوال الأشهر العشرة الماضية في أن تضع يدها على أصحاب ذلك المخطط الجهنمي. بحيث تعين علينا أن نقتنع بوجود المؤامرة دون أن يتوافر لدينا ما يدل على هوية مدبريها أو حتى منفذيها.

لم تكن هذه هي الثغرات الوحيدة في حديث عضو المجلس العسكري، لأن ثغرات أخرى تخللته فأضعفت منه كثيرا، ولو أن لدينا آلية لقياس مؤشرات أصداء المؤتمر كما يحدث مع أسهم البورصة، لاكتشفنا بأن أسهم المجلس العسكري انخفضت كثيرا بعد ذلك المؤتمر، وأن حصيلته كانت خصما من رصيده، فلا هي حافظت على الرصيد المتآكل، ولا هي أضافت إليه شيئا.

من الثغرات الأخرى التي تخللت الخطاب أن اللواء عادل عمارة نسي أنه عضو في هيئة تحكم البلد وتدير سياسته، وتكلم بحسبانه قائدا عسكريا يخاطب جنود الوحدة الذين يأتمرون بأمره.
وحين أطل علينا بزيه العسكري كاملا فكأنه أراد أن يقول لنا:
انتبهوا جيدا إلى من يكلمكم.
 ولأنه جاء مستغرقا في الدور فإنه وجه خطابه بالأساس إلى القوات المسلحة ولم يفته أن ينوه ويحذر من أن الجيش خط أحمر، وهو ما نوافق عليه بطبيعة الحال بعد إضافة أخرى بسيطة تذكر أن الشعب بدوره خط أحمر،
 وأن شرعية الجيش ليست مستمدة من أسباب القوة التي يملكها، لكنها مستمدة بالدرجة الأولى من قدرته على الدفاع عن كرامة الوطن والمواطنين.

لم يعترف عضو المجلس العسكري بأي خطأ وقع، ولم يعتذر عن أي إهدار لكرامة المواطنين، رغم تعدد الأخطاء وثبوت ذلك الإهدار.
وحين وجد نفسه مضطرا للاعتراف بصحة صورة هتك عرض إحدى المتظاهرات، فإنه حاول تبرير ذلك بدعوة السامعين إلى تقدير الحالة النفسية والسياق الذي كان سائدا وقتذاك، وكل ما قاله إن الموضوع محل تحقيق.

أنكر السيد اللواء أن هناك أمرا صدر بفض الاعتصام بالقوة. وكنت قد أشرت مرتين من قبل إلى أن فض اعتصام ميدان التحرير في 19 نوفمبر كان بناء على أمر صدر من المراجع العليا، ولم يعلم به وقتذاك لا رئيس الوزراء ولا وزير الداخلية.
وهو ما أيده الدكتور علي السلمي نائب رئيس الوزراء في حكومة الدكتور عصام شرف، في حديثه الذي نشرته صحيفة «المصري اليوم» أمس الأول 19/12.

إن ردود الأفعال على خطاب اللواء عمارة التي توالت خلال اليومين الماضيين تكاد تجمع على أنه لم يكن موفقا أو مقنعا.
ومادام الرجل قد اختار أن يخاطب القوات المسلحة، فأرجو ألا يطول انتظارنا لمن يوجه خطابه إلى الرأي العام المصري محترما عقله وذكاءه.

كيف دخلت المسيحية مصر وكيف دخلها الإسلام


من ألوان الحرب التى تشن الآن ضد الإسلام اعتباره طارئا على البلاد

وفد عليها مع فاتحين غرباء، ثم استقر فيها على كره من أصحابها الأصلاء!!.
وهذه مزاعم مضحكة، فإن كلتا الديانتين جاءت مصر من الخارج.
وليست مسيحية عيسى صناعة محلية يجب ـ لتشجيعها ـ أن توضع العوائق الجمة أمام ما قد يزاحمها من واردات أخرى ! كلا
لو كان من حق أهل بلد ما أن يطردوا الأفكار الغريبة عن بيئتهم لأنها ليست أفكار مواطنين أصلاء، لوجب إخراج المسيحية والإسلام معا من مصر، ولوجبت إعادة البلد على عجل إلى حظيرة الوثنية المحضة التى تعبد فيها الأصنام وتقدس العجول.
فإن الوثنية هى الديانة التى عرفها تاريخنا آلاف السنين، إنها بضاعتنا العريقة.
أما الإسلام فقد جاء به عرب غرباء.
وأما المسيحية فقد جاء بها ـ كذلك ـ رومان غرباء .
والكاتب الصليبى الذى سود صحائفه بأحقاده على العرب الفاتحين لا يمكنه تجاهل هذه الحقيقة.
بل إنه يعترف بها على رغمه.
قال فى ص 11: " ظل الشعب القبطى بعد انتشار المسيحية على أيدى الرومان والبيزنطيين يعبد بحرارة آلهته الفرعونية، ويكرم آثار ماضيه التليد، وكان يرفض أن يقدم أى قربان لآلهة اليونان والرومان، كما أنه لم يقبل المسيحية إلا بتحفظ شديد لأنها جاءته من الخارج، وكان الشعب يريد بذلك إقناع نفسه أنه لم يخضع لاحتلال الغزاة ما دام يقاوم شعائرهم وعقائدهم ".
ويقول فى الصفحة نفسها : ".. ترك مسيحيو مصر ديانة أجدادهم مكرهين " كذا " لأن ديانة الفراعنة ومعابد الفراعنة وآلهة الفراعنة كانت تذكرهم بمجد مصر فى مختلف عهودها.
فلا غرابة إذا ظلت معتقداتهم الأولى راسخة فى نفوسهم، رابضة فى قلوبهم، بعد اعتناقهم المسيحية. ونضرب مثلا لهذا التشبث ـ يعنى تشبث المصريين بوثنيتهم القديمة ـ من قراءة " السيناكسار" أى تاريخ القديسين.
وماذا يقول: " السيناكسار" هذ ا؟.

يقول ـ كماترجم الكاتب من مرجع فرنسى ـ "فى معبد قيصرون الذى شيدته الملكة " كيلو بطرة ".
كان يوجد صنم كبير من النحاس اسمه "عطارد" وكان يحتفل سنويا بعيده وتقدم له الذبائح، وقد ظلت هذه التقاليد معمولا بها إلى أيام حكومة الأب " إسكندر ".
أى لمدة تزيد عن ثلاثمائة عام.
فلما نصب " إسكندر " بطريركا قرر تحطيم هذا الصنم..
بيد أن شعب الإسكندرية ثار قائلا: لقد اعتدنا إحياء هدا الصنم.
ولقد تربع على هذا الكرسى اثنا عشر بطريركا ولم يجرؤ أحد منهم أن يصرفنا عن هذه العبادة ".
أرأيت أيها القارئ؟ ذلك هو تصرف الأمناء على ديانة نزلت من السماء بإزاء التقاليد الوثنية التى رفض العامة من المصريين أن يدعوها.
والغريب أن هذا الكاتب يقول قبل ذلك بسطور:"..
إننا لن نناقش النتائج التى خرج بها بعض المستشرقين أمثال " لوفيفر" و " شميدت" و" شولتز".
فقد اتفقوا على أن المسيحية ظلت غريبة على أهل مصر الأصليين، كما ادعوا أن نجاح العرب يرجع بصفة عامة إلى " أن الإسلام اجتذب أقباط مصر، الذين تعبوا من تزمت كنائسهم وتضييقها عليهم ".
ونحن نعرف أن أهل مصر الأول كانوا وثنيين متعصبين لعقائدهم.
وقد قرأنا ـ كذلك ـ فى تاريخ القديسين كيف احترم البطارقة هذه الوثنية وسايروها.
فلم غضب المصريون آخر الأمر من كنائسهم؟.
إن هذا الغضب لا يتصل بأمور خدشت تقاليد المصريين العتيقة، وإنما يعود إلى الاضطرابات العنيفة التى تخلفت عن انقسام الكنائس فى فهم حقيقة المسيح، وقد تكون له أسباب أخرى نفسية واقتصادية.
أما المصريون أنفسهم فقد نجحوا- كوثنيين- فى فرض أفكارهم وعاداتهم على ! المسيحية نفسها.
يقول " هـ. ج. ويلز " فى كتابه ملخص التاريخ: " إن السيد المسيح أغمى عليه حين حمل على صليبه لأنه كان ضعيف البنية، وإنه توفى قبل أن يتوفى المصلوبان إلى جانبه وأن السيد المسيح لم يبشر بالديانة المسيحية المعروفة اليوم ".

يقول ويلز: "لأن هذه التعاليم إنما أحدثها الرسول "بولص " المتعلم بالإسكندرية،1 وأن "بولص " أخذ تعاليمه من وثنية الإسكندرية... ".
ثم يقول ويلز: " إن خيوط الثالوث المقدس حيكت فى الإسكندرية، وإن آلهة قدماء المصريين الثلاثة " إيزيس " و " هورس " و " سيزابيس " قد استحالت عند "بولص " إلى الأب والابن والروح القدس ".
وكلام " ويلز " يتضمن حقائق كثيرة.
وقد أيده الكاتب الصليبى من حيث لا يدرى، إذ قال فى ص 12: " لم يستطع المصريون تلافى المسيحية فحاولوا ـ حسب تعبير " جان ما سبيرو " الموفق ـ مصادرتها لمصلحتهم، وقرروا أن كل ما كان جميلا وعظيما فى المسيحية إنما هو مصرى.
ومن ذلك الحين مال الإكليروس والشعب إلى القبض على زمام الحكم، ثم إلى الانفصال عن حكم " بيزانطيا".
وقد تجلى هذا الميل بوضوح بعد مجمع "نيقية " حيث بزغ نجم كنيسة الإسكندرية ولمع ".
ومجمع " نيقية " هذا، هو الذى قرر مطاردة الموحدين وإحراق كتبهم بعد أن اعتبر عيسى إلها مع الله ! فلا غرو أن يبرع فيه نجم كنيسة الإسكندرية ويلمع! أليس هذا نصرا ضخما تحرزه الوثنية المصرية يجدد ديانة الفراعنة الأقدمين ويعيد الحياة إلى رفاتهم البالى ؟.

لو أن عيسى عليه الصلاة والسلام استطاع أن يقيم لدينه دولة تحمى قواعده الحقة ما استطاعت الوثنية القديمة أن تفتك به هذا الفتك الذريع.
ولكن عيسى ذهب والنصرانية تدور بها دوامة عاصفة من أحقاد الوثنية التى تملك الدولة والصولة.
ولم يكن الرومان وحدهم عباد أصنام، بل كان اليونان والفرس والمصريون والهنود وسائر البشر، ما عدا فلول من اليهود لا يقام لهم وزن.
وددنا لو قرأنا تعاليم عيسى نفسه بلغته العبرانية، أو لو قرأنا رسائل حوارييه الكرام بهذه اللغة نفسها، فهى اللغة التى دونوا بها عقائدهم وبشروا بها أممهم.
غير أنه- من المؤسف- ألا نجد إلا تراجم يونانية و لاتينية لهذه الكتب المفقودة، وهؤلاء الذين كتبت تعاليم المسيح بلغتهم هم سدنة الوثنية القديمة وأشياعها.
والمدهش أن المترجمين أنفسهم أشخاص مجهولون!.
فباى وجه من المنطق يؤخذ دين عيسى من ألسنة أعدائه بعد ضياع الصحائف الأولى التى أنزلت عليه، وبعد ضياع الأسفار التى كتبها عنه تلامذته، وحلت محلها تراجم لا تعرف قيمتها العلمية ولا أمانة ذويها؟.
ونحن نجزم بأن تغييرات هامة جدا طرأت على أصل النصرانية مالت بها إلى تعدد الآلهة! ونحت بها نحو الوثنية السائدة فى فكرة الفداء والقرابين.
وقد عاداها المصريون أولا بالنظر إلى أصلها السماوى، وحتى إذا حوروها كما يشتهون دخلوا فيها.
أو بالأحرى لم يستطيعوا الانتقال إليها فنقلوها إليهم..
ولما كان المفروض أن الإنجيل ملحق بالتوراة، وأنه يعتمد أحكامها، وأن النصرانى مكلف بالعهدين القديم والجديد معا، فإن عبث الوثنية لم يلحق الإنجيل فحسب، بل تعداه إلى التوراة نفسها.
وقد لاحظ الباحثون دلائل ذلك فيما يلى:
ا- برز حقد الوثنيين على رسل الله فنسبوا إليهم أعمالا شائنة، فجاء فى هذه الكتب المقدسة (!) أن نبيا شرب الخمر فزنى بابنتيه.
وأن آخر سكر حتى تعرى وانكشفت سوأته لأحد ولديه، فغضب على الآخر لغير جريرة.

وأن أحدهم رفض دعوة النبوة من ربه.
وأن آخر ارتد وعصى الله وعبد الأصنام.
وأن آخر صنع عجلا لقومه.
وآخر شبه الناس جميعا بالكلاب ما عدا بنى إسرائيل.
وأن نبيا طمع فى امرأة فأرسل بزوجها إلى الميدان وأوصى بقتله حتى يخلو الجو له معها وأن..
وأن.. إلخ.
والذى يقرأ نشيد الإنشاد فى العهد القديم  ( نبذة عن نشيد الأناشيد ) ويقرأ صور الغزل المفضوح فيه، يوقن بأن ما حوى من مباذل، وليد طبيعة مهتاجة بالشهوة البهيمية، مما لا يمكن صدوره أبدا عن رب العالمين.
قال " جان ملز كاتلك " فى كتابه المطبوع سنة 1843 : " اتفق أهل العلم على أن نسخة التوراة الأصلية، وكذا نسخ العهد العتيق ضاعت من أيدى عسكر " بختنصر ".
ولما ظهرت نقولها الصحيحة بواسطة "عزرا " ضاعت تلك النقول أيضا فى حادثة "أنيكوسى ".
فلما ضاعت صحائف الوحى المنزل من السماء حلت مكانها هذه الأباطيل. !.
2 ـ لا يعرف أثر بتة لإنجيل عيسى الذى نزل عليه من ربه.
والمسيحيون اليوم يزعمون أنه ليس لعيسى إنجيل، مع أن ذكر هذا الإنجيل جاء فى رسالة "بولس " إلى أهل "غلاطية" 1: 6-7.
وقد أيد فقدان هذا الإنجيل "طامس انكلسى" فى كتابه مرآة الصدق.ـ إن جملة الرسائل التى تؤلف ما يسمى الآن بالعهد الجديد لا تنهض على أسانيد تعطيها قوة تاريخية معتبرة، فهى غريبة عن لغة المسيح بعيدة عن عصره، وبمكن القول بأن هذا العهد ما صنفه المسيح ولا الحواريون، بل صنفه رجال مجهولو الاسم ثم نسب إلى الحواريين ورفقائهم.
وكتب " استادلن " يقول: " إن كافة إنجيل "يوحنا! تصنيف طالب من جامعة "الإسكندرية " ووافقه " برطشنيد " وزاد على ذلك أيضا رسائل "يوحنا ".
ومع ذلك فإن العهدين القائمين ذكرت بهما أسماء نحو خمسة وعشرين سفرا لا وجود لها ".

***
ونحن ـ المسلمين ـ لا نزعم أن ما ورد فى أسفار العهدين القديم والجديد باطل محض، ففيهما مزيج غامض مبهم من الخطأ والصواب.
وقد وردت فيهما كلمات تخلع وصف الألوهية على أناس أطبق أهل الأديان أجمعون على عدهم بشرا فحسب.
جاء فى الإصحاح السابع من سفر الخروج " فقال الرب لموسى: انظر، أنا جعلتك إلها لفرعون، وهارون يكون نبيك!.
وجاء فى الإصحاح الرابع من السفر المذكور:" هو يكلم الشعب عنك، ويكون لك فما، وأنت تكون له إلها".
وهذا التهور فى إطلاق الألوهية على الأناسى.
إما أن يكون عجزا شائنا فى الترجمة عن الأصل فأبدلت كلمة السيد مثلا بالإله.
وإما أن يكون مسلكا مغرضا قصد به تضليل العامة عن سوء نية..
وكلا الأمرين استغل ـ كما رأيت ـ فى تأليه " عيسى " لما كثرت هذه الإطلاقات عليه.
ولكن لماذا لم يؤله موسى كذلك؟؟ وقد ذكرت كلمة "ابن الله " كذلك على غير" عيسى "، فأطلقت على آدم " ابني آدم ابن الله " لوقا " 3 : 38 ".
وقال فى غيره عن يعقوب" هكذا يقول الرب: إسرائيل ابنى البكر ".
وأطلقت على داود كما فى المزمور 89، " هو يدعونى أبى، أنا أيضا أجعله ابنى".
وعلى سليمان بن داود، كما ورد فى أخبار الأيام الأولى " يكون لى ابنا وأنا له أبا " وعلى جميع بني إسرائيل كما فى الإصحاح "14 " من سفر التثنية " أنتم أولاد الرب إلهكم ".
وأطلقت على جميع الناس، كما فى الإصحاح السادس من سفر التكوين "الناس أبناء الله ".
وعلى المؤمنين فقط، كما فى الإصحاح الخامس من إنجيل متى: " لتكونوا أبناء أبيكم الذى فى السموات ".
وكما فى (23) متى " لا تدعوا لكم أبا على الأرض لأن أباكم واحد، الذى فى السموات ".
وعلى المصلين، كما فى الإصحاح السادس من متى: "فصلوا أنتم هكذا، أبانا الذى فى السموات، ليتقدس اسمك ".
وعلى صانعي السلام، كما فى الإصحاح الخامس من متى " طوبى لصانعى السلام لأنهم أبناء الله ".


***
نعتذر لهذا الاستطراد، لقد تمشينا مع الحديث رغبة منا فى كشف كثير من الأحداث التى اكتنفت تاريخ النصرانية الأولى، ومدى تأثير الديانة المستضعفة بها، والدور الذى لعبته مصر مع غيرها من دول العالم الوثنى فى توليد مسيحية جديدة يزدوج فيها مبدءا التوحيد والتعدد.
ونستخلص من هذا السرد المجمل.
أن مصر كانت وثنية فى أغلب عصور الفراعنة.
وأن النصرانية التى أرسل بها عيسى كالإسلام الذى جاء به محمد، ديانة وافدة من الخارج.
وهذه أو تلك لا يقدح فيهما ولا يزكيهما وصف بالغربة أو الألفة، فإن الدين كالعلم لا وطن له.
وأن المسيحية التى انتشرت بعد فى مصر لقيت حمايتها ورواجها على أيدى الرومانيين المحتلين للبلاد.
وكان جمهور المصريين ينظر إليها على أنها بعض مظاهر السيادة الأجنبية.
وأن عبادة الأصنام ظلت متغلغلة فى مصر قرابة ثلاثة قرون لم ير فيها بطاركة الكنيسة ما يزعج مسيحيتهم.
وأن المصريين لما استبان لهم أن الثالوث المسيحى تجديد للثالوث المصرى القديم أقبلوا على المسيحية باعتبارها فلسفة مصرية بحتة، وليست ديانة يفرضها الرومان الغاصبون لبلادهم.
***
وهذه الخلاصات يمكننا أن نستدل عليها جميعا من النقول والتعليقات التى ذكرها المؤلف الصليبى فى الباب الأول من كتابه.
وثم أمر آخر عنى الكاتب بإبرازه.
وهو أن الكنيسة المصرية شقت عصا الطاعة على كنيسة " روما " لأسباب سياسية مجردة.
فالانشقاق القبطى هو دينى من حيث الحجة فقط ! كما يقول المؤلف فى ص 13.
وعلته الدفينة حب البطريرك المصرى للانفراد بسيادة بلاده إذ كان يصرح: " إن البلاد لى أكثر مما هى للأباطرة وإني أطالب بالسيادة على مصر" وفى سبيل هذه السيادة صنعت الكنيسة المصرية أمرا بالغ الغرابة.
فقد وافقت بطريرك " القسطنطينية " على حرمان الراهب الذى ابتدع المذهب الأرثوذكسى.
ولكن بطريرك مصر حقد على زميله هذا السلطان الواسع فأعلن اعتناقه لهذا المذهب الجديد مخالفا آراء زملائه من رجال الإكليروس.
فقد وضعهم ـ كما يقول المؤلف الصليبى ـ فى مركز حرج.
ذلك لأن الأساقفة المصريين أدانوا " أوتيشيش " ـ الراهب المحروم ـ دون أن يبدى البطريرك ـ وهو صاحب الرأى الأخير ـ أية معارضة.
فكيف يستطيعون بعد ذلك أن ينقضوا حكمهم فى دون أن يعرضوا أنفسهم للسخرية؟.
وبينما كان الأساقفة حائرين مترددين أمام هذا الموقف الشاذ، إذا " ديسفور " ـ البطريرك المصرى ـ يأمرهم بأن يتضافروا معه ويؤيدوه فى موقفه.
ولم يكن فى استطاعة الأساقفة إلا الإذعان لأمر رئيسهم!! ص 14.
ويقول الكاتب أيضا فى الصفحة نفسها: …" أما الشعب المصرى فلم يتردد لحظة واحدة فى مناصرة بطريركه لاعتقاده أن جرأة رئيسه الدينى قد حققت أمانيه الغالية المنشودة ".
فلم يكن الأمر إذن بحثا عن الحقيقة، ولم يكن الخلاف على فهم طبيعة المسيح سعيا منزها لمعرفة الصواب.
إن معنى ذلك ـ كما يصور الكاتب الصليبى ـ أن المذهب الأرثوذكسى وليد عناد دفع إليه الطموح، وأن المسائل الدينية الكبرى تحركها من وراء ستار نزعات دنيوية محضة.


وإذا كان هذا الكاتب صادقا فى تصويره للوقائع التى تمخضت عن المذهب الجديد فإن ذلك تسجيل حاسم للريب التى تحيط بجملة العقائد المسيحية: لا الواردة فى العهدين فحسب، بل الناشئة عن قرارات المجامع المختلفة..!
وأيا كان الأمر فقد اضطربت الصلات بين مصر وروما، واتسعت الفجوة بين الكاثوليك والأرثوذكس.
حتى ان المصريين فضلوا أن يحكمهم مجوس فارس عن أن يظلوا خاضعين للمسيحيين الرومان !! إنهم كانوا يريدون البقاء على مذهبهم الدينى آمنين، وهذا ما كان الرومان يضنون به على ذلك أثقال الضرائب التى فرضها الحكام المتعسفون.
إن مصر المسيحية فى ظل الإمبراطورية الرومانية المسيحية ظلت تنوء بما تحمل حتى خارت قواها، وتحولت على مر الليالى السود إلى مستعمرة تزدحم بالرعاة والعبيد.

الإسلام يدخل مصر:

 تختلف نشأة الإسلام اختلافا كبيرا عن نشأة النصرانية.
فإن الإسلام يمتاز بأنه تحول على عجل إلى دولة تهيمن على جزيرة العرب.
كان النبى رئيسها الأعلى، وكان القرآن ـ وهو دستورها الأصيل ـ محفوظا بعناية رائعة، ووعته صدور القراء الذين استظهروه كلمة كلمة.
والذين بلغ من كثرتهم أن تكونت منهم فرق مقاتلة كان لها أثر عميق فى حرب الردة.
ووعته كذلك صحائف الكتبة الذين سطروا آى الوحى فى أوراقهم.
فلم يمت النبى إلا والكتاب السماوى يكتب ويقرأ فى نطاق بعيد المدى.
ولا شك أن حظ القرآن من ذلك لا يذكر إلا جانبه أبدا حظ الإنجيل.
وقد حاولت الوثنية العربية أن تحتل الدين الجديد، وأن تتسرب إليه عن طريق مهادنته.
فعرض عبدة الأوثان على النبى أن يعبدوا إلهه فترة وأن يعبد آلهتهم أخرى، فنزل الوحى: (قل يا أيها الكافرون *لا أعبد ما تعبدون *ولا أنتم عابدون ما أعبد *ولا أنا عابد ما عبدتم *ولا أنتم عابدون ما أعبد *لكم دينكم ولي دين).
وحاولت إحدى القبائل أن تدخل فى الإسلام على شريطة أن تستمتع بعبادة صنمها سنة ثم يهدم بعدها! فأبى النبى إلا هدمه فى الحال.

وذلك مسلك يناقض مسلك النصرانية التى سمحت للمصريين أن يكونوا مسيحيين وعباد أصنام فى وقت واحد، كما ذكر ذلك الكاتب الصليبي نفسه فى ص 12 من كتابه.
وقد يتوهم أحد المغفلين أن مسلك الإسلام ينطوى على صلابة وتزمت.
وأن مسلك النصرانية فى مهادنة الوثنية، أو مداهنتها، أو الامتزاج بها، كان ينطوى على اعتدال ومرونة..
إن هذا غلط فاحش.
فإنصاف الحقيقة وحماية جوهرها شئ، وحمل الناس عليها بالإكراه شئ آخر.
دخل الإسلام فارس فبقى التوحيد توحيدا وبقيت المجوسية مجوسية.
فمن شاء البقاء على مجوسيته بقى آمنا، ومن شاء دخل فى الإسلام فأحل حلاله وحرم حرامه ونزل على أحكامه كلها.
أما اختلاق مركب جديد من الديانة المحلية والديانة الجديدة فعبث يجب أن يقاوم بالسيف..
لأن التمشى معه إيذان بضياع الحق إلى الأبد، وذلك ما فعلته الوثنيات القديمة بدين عيسى.
فلا جرم أن يرفض الإسلام أية مساومة على منحه حق البقاء، وأن يمضى فى طريقه مستندا إلى مبادئه وحدها وتضحيات المؤمنين بها.
فما إن استقر له الأمر حتى بدأ يجلى جيوش الروم والفرس عن الأقطار الفسيحة التى احتلت رقعتها واستهلكت أهلها..
على ما قصصنا عليك.
وكانت مصر قبيل الفتح الإسلامى يتنازع احتلالها الفريقان معا، حتى انهزم الفرس آخر الأمر أمام خصومهم فتوطد ملك الروم بها.
وأضحت ـ بموقعها ومواردها ـ معواناً قويًا للروم فى القتال الذى دار بينهم وبين المسلمين.
جيش عمرو: قرر أمير ا!لمؤمنين " عمر بن الخطاب " فتح مصر، وسار إليها الجيش الزاحف بقيادة " عمرو بن العاص " فأخذ طريقه إلى القاهرة حيث التقى بهم جيش الروم وفيه الجاثليق " أبو مريم " ومعه الأسقف الذى أرسله المقوقس.

وقبل أن تشتبك القوى المتأهبة للنزال قال " عمرو " لقادة الروم: لا تعجلوا حتى نعذر إليكم! وليبرز إلى الجاثليق، والأسقف، فخرجا إليه، فدعاهما إلى الإسلام أو الجزية، وأخبرهما بوصية النبى صلى الله عليه وسلم بأهل مصر، لأن " هاجر" أم إسماعيل جد النبى عليه الصلاة والسلام من مصر.
روى مسلم فى صحيحة أن النبى قال: " إنكم ستفتحون مصر، وهى أرض يسمى فيها القيراط.
فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما " أو " ذمة وصهرا " فقالا: " قرابة بعيدة، لا يصل مثلها إلا الأنبياء ".
ثم قالا لعمرو " أمنا حتى نرجع إليك " فقال لهما: " مثلى لا يخدع ولكنى أؤجلكما ثلاثا لتنظرا ".
فقالا: لازدنا... " فزادهما يوما.
فرجعا إلى المقوقس بطريرك الأقباط، وإلى " أرطبون " الوالى الرومانى فأخبراهما خبر المسلمين.
ويبدو أن البطريرك القبطى كان زاهدا فى قتال العرب.
وما الذى يستثير حماسته ضدهم؟ وصلة مصر بالروم على ما علمنا من ضعف بل من مقت!!.
أما الحاكم الررماني فقد قرر المقاومة ورفض ما عرض عليه، واستعد للقتال بل بادر المسلمين بالهجوم فعلا إلا أنه انهزم وارتد إلى الإسكندرية.
فتعقبه العرب فى مهربه، ووزع " عمرو " فرقه علي جبهات عدة استطاع أن يحرز فيها جميعا النصر بعد أن حاصر الروم فى مواقعهم أياما طويلة.
وقد أرسل أهل البلاد إلى " عمرو " يعلنون رضاهم بالصلح وقبولهم دفع الجزية على أن ترد لهم السبايا.
فأرسل " ابن العاص" إلى أمير المؤمنين بذلك فأجاب مطالبهم.
وأمضى " عمرو بن العاص " معاهدة الصلح مع المصريين.
وهذا نصها على ما رواه الطبرى : "بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى "عمرو بن العاص " أهل مصر، من الأمان على أنفسهم، وملتهم، وأموالهم، وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شئ من ذلك ولا ينتقص..
ولا يساكنهم النوب.

وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية ـ إن اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم ـ خمسين ألف ألف درهم وعليهم ما جنى لصوتهم.
فإن أبى أحد منهم أن يجيب، رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة.
لان نقص نهرهم من غايته إذا انتهى، رفع عنهم بقدر ذلك..
ومن دخل فى صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم..
ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا..
عليهم ما عليهم أثلاثا.
فى كل ثلث جباية ثلث ما عليهم..
على ما فى هذا الكتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين، وذمم المؤمنين.
وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا.
على أن لا يُغَزوْا، ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة..
شهد الزبير، وعبد الله، ومحمد ابناه،.
كتب وردان وحضر …." ا . هـ.

***
إن المبادىء الهامة التى تضمنتها هذه المعاهدة تعد صفحة جديدة فى تاريخ العصور الوسطى.
وهى على نسق المعاهدات التى أبرمها المسلمون مع كثير من الشعوب التى طردوا الفرس والرومان منها.
ويجب أن نقرر هنا بعض الأسباب التى جعلت المصريين يستريحون لهذا العهد المعروض عليهم ويمضونه راضين.
ا ـ فقد استردت البلاد حريتها الدينية كاملة، ونالت ضمانا واضحا أن تبقى للمعابد قداستها فلا يقتحمها أحد، ولا تخدش شعائرها...
وكان الأقباط محرومين من هذا الأمان فى أثناء حكم الرومان، لاختلاف المذهب الدينى، وإن انتمى الفريقان للنصرانية!.
2 ـ خف حمل الضرائب التى يدفعها المصريون للحكومة الإسلامية.
فإن تعداد مصر على عهد الفتح الإسلامى بلغ عشرة ملايين ساكن.
وكان الحد الأعلى لضريبة الجزية خمسين مليونا من الدراهم، أى متوسط ما يؤديه الفرد للحكومة خمسة دراهم فى العام " نحو عشرة قروش " مع أن الرومان كانوا يستكرهون المصريين على دفع جملة أنواع من الضرائب الباهظة..
3 ـ يلاحظ أن هذه الضريبة كانت تنقص تبعا لهبوط الفيضان ولكنها لا تزيد عن النسبة المقررة، كما أنها تؤدى أقساطا ثلاثة على مدى السنة.
4 ـ هذه المعاهدة معقودة مع المصريين الذين هم أصحاب البلاد.
فإذا رغب رومانى أو نوبى الدخول فيها، فله حق المعاملة بالمثل، وإلا فعلى العرب أن يصونوا دمه وحقوقه كلها حتى يبلغ المكان الذى يأمن فيه على نفسه أو ينقطع عنده سلطانهم.
5 ـ لا يجوز للمسلمين أن يمنعوا تجارة صادرة ولا واردة.
6 ـ ويجب عليهم- لقاء الضريبة التى يحصلونها- أن يمنعوا أى غزو لمصر.
وقد أخلص الطرفان فى تنفيذ المعاهدة.
ولما طارد العرب فلول الرومان المنهزمين واستولوا على ما بأيديهم من أموال جاء كثير من الأقباط يشكون أن هذه الأموال لهم أخذها منهم الرومان قهرا، فرد العرب عليهم ما أقاموا البينة على أنه ملكهم.

وبقى " المقوقس " على رياسته للبلاد يتردد بين منف والإسكندرية، وبلغ من توثق الصلات بين المسلمين والبطريرك أنهم كانوا يستشيرونه فيما ينزل بهم من مهمات حتى توفى.
كتبه / الشيخ العلامة محمد الغزالي

 هامش

1 الترجمة للكتاب النصراني وليست للشيخ محمد الغزالي وأغلب الظن أنه بقصد أن بولس  ينتمي فكريا الي مدرسة إسكندرية
الرجوع الي مقالات الشيخ محمد الغزالي - الرد على النصارى

نعوم تشومسكي

 
مفكر وناشط سياسي أمريكي، يُعتبر مُنظّر رئيسي لجناح اليسار هناك، معروف بانتقاده للسياسات الأمريكية



معهد ماساتشوستس للتقنية

 ديسمبر، 1928








.

ـ صاحب نظرية النحو التوليدي، والتي كثيراً ما تعتبر أهم إسهام في مجال اللغويات النظرية في القرن العشرين.
ـ أسهم في إشعال شرارة الثورة الإدراكية في علم النفس من خلال مراجعته للسلوك الفعلي لـ ب.ف. سكينر، والذي تحدى المقاربة السلوكية لدراسة العقل واللغة والتي كانت سائدة في الخمسينات.
ـ مقاربته الطبيعية لدراسة اللغة أثّرت على فلسفة اللغة والعقل (انظر هارمان وفودور).
ـ يعود إليه فضل تأسيس ما أصبح يُعرف بـ تراتب تشومسكي، وهي تصنيف للغات الشكلية حسب قدرتها التوليدية.



أستاذ جامعي مدى الحياة في اللغويات بمعهد ماساتشوستس للتقنية، معروف على نطاق واسع كناشط سياسي، ويشتهر بنقده الشديد للسياسات الخارجية والاقتصادية الغربية والأمريكية منها على وجه الخصوص. يوصف بأنه إشتراكي تحرري، وكمتعاطف مع التضأمنية اللاسلطوية (وهو عضو في نقابة عمال العالم الصناعيين) وكثيراً ما يُعتبر منظراً رئيسياً للجناح اليساري في السياسة الأمريكية.

ـ اللغويات (اللسانيات)
ـ الفلسفة التحليلية
ـ الاقتصاد
ـ السياسة الدولية

البريد الإلكتروني
Chomsky@MIT.edu, Mofakeroon@gmail.com
الهاتف
الموقع الإلكتروني














































الأكثر مشاهدة

Trending Template