Pages


حبال من رمل

بين يدي المقال:
نواصل في هذه الحلقة الحديث في "لغة وسياسة".. الحابل والنابل. وهذه هي الحلقة الخامسة. وعنوانها هو عنوان كتاب ايفلاند: "حبال من رمل" وهذه هي الحلقة الثانية في هذه المقالة. وقد وجدت الكتاب مهماً، وإن كان أصبح تاريخاً، لكن فهم الظاهرة يقتضي العودة إلى الجذور والتكوين والتخلق: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق" العنكبوت 20. ونبتدئ من تاج العروس.
 
1- "الحبل" في تاج العروس.
قال مرتضى الزبيدي في "تاج العروس من جواهر القاموس": ح ب ل: الحبل: الرباط. وذكر التاج جموعه كالآخرين وهي أربعة: "أحبُل وأحبال وحبال وحُبول" كذا في المحكم (وزاد بعضهم حبائل) قال أبو طالب بن عبد المطلب (صرح به وقد تركه اللسان وقال أبو طالب فقط)، وجاءت رواية الزبيدي مختلفة عن اللسان فقال
:
أمن أجل حبل لا أبا لك صِدته   بمنسأة قد جاء حبل بأحبل
وعلى هذه الرواية لا مشكلة في الرفع والنصب في "حبلك أحبلاً".. كما مر في اللسان. وفي الحديث: "حبائل اللؤلؤ" كأنه جمع حبل على غير قياس، أو هو تصحيف، والصواب: "جنابذ"، بالجيم والذال، هكذا صرح به أكثر أهل الغريب، وتبعهم أكثر شراح البخاري. قال شيخنا: والصواب أنها رواية صحيحة (أي حبائل)، كما حققه عياض في المشارق (مشارق الأنوار)، وصححه الحافظ ابن حجر وغيره. ثم ذكر الزبيدي من في أسمائهم اسم "حبْل" أو مشتقاته فقال: "أبو جعفر أحمد بن محمد بن حبْل" (ليس حنبل) النحْوي، قاضي مالقة (بالأندلس) (720هـ وما بعدها) و"ربيعة بن حاتم بن سنان الحبْلي المصري"، محدث وولده محمد بن ربيعة، سمع منه أبو الحجاج المِزّي الحافظ. وأخوه عبد الله بن حاتم سمع منه المنذري. و"حِبال بن رفيدة التميمي التابعي" وهو "حبال بن أبي الحبال"، يروي عن الحسن، وعنه أبو إسحق السَّبيعي، نقله ابن حبان، زاد الحافظ، وروى عن عائشة أيضاً. و"أبو إسحق الحبّال" محدث مصر وحافظها في زمن الفاطميين. وجماعة آخرون يعرفون بذلك، وهو (أي الحبّال) الذي يفتل الحبال ويبيعها.

وَحَبَله بحبله حبْلاً: شده به. أي بالحبل. قال: "في الرأس منها حِبُّه مَحبُول"
وفي المثل: "يا حابل اذكر حلاً" أي يا من يشد الحبل اذكر وقت حله. والحبل: الرسن. قال تعالى: "في جيدها حبل من مسد" والمحبّل بمعنى الحبل. عن ابن سيدَه. وبه فُسّر قول رؤبة (العجّاج): "كل جُلال يملأ المحبّلا" والجمع حبول. كما في المحكم (لابن سيده).
وفي التهذيب: والجمع حبال. وفي الصحاح: يجمع على حبال وأحبُل. (ونحن نميل إلى جمع كل الصيغ فجميعها جائز حائز على القبول طالما قال به إمام من أئمة اللغة ولم نضيّق؟ ونحن مع التسمح في اللغة كالتسمح في الفقه. ويعجبنا قول "مصطفى الجوزو" عالم اللغة اللبناني المعاصر في تيسير مذاهب اللغة وتيسير الاشتقاق.. ضمن القواعد والضوابط بالطبع لكن دون تشدد!) (وسئل الشيخ عبد الله العلايلي (ت1996) علامة اللغة اللبناني عن لغة المستقبل فقال: لغة المستقبل هي اللغة الميسرة المبسطة أعني إنزال الفصحى من برجها العاجي. مجلة الأسبوع العربي عدد 2699.

والحبل: الرمل المستطيل. كما في الصحاح والمحكم. زاد الأزهري: المجتمع الكثير العالي، وكذلك حبال الدهناء: رملات مستطيلات. وفي حلقة قادمة سأعرف بكتاب للمخابرات الأمريكية: حبال من رمال.
ونواصل الرحلة مع تاج العروس: ويقال: جاؤوا حَبْلَي زَرود، وهما رملتان مستطيلتان. ومن المجاز (أي في استعمال كلمة الحبل ومعناها): "العهد والذمة والأمان. يقال: كانت بينهم حبال فقطعوها: أي عهود وذمم" (وأشهر من يقطع ما أمر الله به أن يوصل هم بنو عمنا بنو صهيون بنو إسرائيل بنو(..) وهذه بعض الآيات: "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون" البقرة 27 والرعد 25 قريبة منها. "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم.." المائدة13. وقوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً.." آل عمران 103 أي بعهده.
وقال الراغب: واستعير للموصِّل ولكل ما يتوصل به إلى الشيء قال: "واعتصموا بحبل الله" فحبله: هو الذي معه التوصل إليه، من القرآن والنبي والعقل وغير ذلك مما إذا اعتصمت به أدّاك إلى جواره، ويقال للعهد: حبل. وقال أبو عبيد: الاعتصام بحبل الله: اتباع القرآن وترك الفرقة، وإياه أراد ابن مسعود رضي الله عنه بقوله: "عليكم بحبل الله فإنه كتابه"ز
قال: والحبل في كلام العرب يتصرف على وجوه: منها العهد: وهو الأمان. فقال رضي الله عنه أي ابن مسعود: عليكم بكتاب الله فإنه أمان لكم وعهد من عذاب الله. وقوله تعالى: "إلا بحبل من الله وحبل من الناس" قال ابن عرفة: أراد إلا بعهد من الله وعهد من الناس، فتلك ذلتهم، تجري عليهم أحكام المسلمين"أ.هـ.
قول ابن عرفة: فتلك ذلتهم. يقصد إلا بحبل من الله وحبل من الناس. بل هو المخرج من ذلتهم ولو مؤقتاً أو ظاهرياً. لا أنه هو ذلتهم. فهذا عكس للمعنى. وإن قيل: قوله: "فتلك ذلتهم، تجري عليهم أحكام المسلمين" وليس في وارد ما أنت فيه. قلت: أين في الآية تجري عليهم أحكام المسلمين؟ وهل جريان أحكام المسلمين ذلة؟ نحن لا نريد إذلال أحد إذا طبقنا عليه أحكامنا، وأين نحن من قول عمر: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
إنما معنى الآية يا أخا العرب والعزة: أن هؤلاء المجرمين مفروضة عليهم -من الله- الذلة النفسية الداخلية والصغار مهما علوا وبلغوا وتملكوا وتسيدوا. وهذه الذلة ترفع جزئياً أو ظاهرياً أو خارجياً بحبل من الله، وهذا كان لأنبيائهم ومن هم على نهج أنبيائهم. وقليل ما هم في قليل من الزمن هم.
أما الذي قد طال أمده فحبل الناس (والله أذن أن يكون في كونه ووفق سننه هذا الأمر. والسنن لا تتعطل لعيون أحد ولا تحابي أي أحد! وليست منحازة لأحد، فكيف تنحاز إلى أحط أحد.. وهو هذا العدو الألد؟! وحبل الناس متجل في مسارعة كل دول العالم –تقريباً- في حراستهم وخدمتهم. وأكتب هذه الكلمات، وسفن الحرية لكسر الحصار تحصرها وتحاصرها اليونان خدمة لعيون إسرائيل. لأنها تعلم أن صندوق "النكد" بيدهم، والبنك الدولي بيدهم "والقرود" بيدهم.. "وأبو كمونة" بيدهم.. والشرعية الدولية بيدهم وجل الزعماء بيدهم فلم لا يعملون لهم وفي خدمتهم؟ "غلت أيديهم" جميعاً.
وقال الراغب: فيه تنبيه (أي قوله تعالى: "إلا بحبل من الله وحبل من الناس") إن الكافر يحتاج إلى عهدين: عهد من الله، وهو أن يكون من أهل كتاب أنزله الله، وإلا لم يقر على دينه، ولم يجعل في ذمة، وإلى عهد من الناس يبذلونه".
(قلت: وهذا أيضاً غير مسلم. فالآية الكريمة لا تتكلم عن الكفار عموماً إنما تتكلم عن "الأكفر"، من بني إسرائيل، وإنهم كشعب، وعلى الجملة، ضربت عليهم الذلة، وتشربوها فأصبحت كأنها فطرة فيهم أو غريزة غرزت فيهم. وهل لذلك علاقة بإذلال فرعون لهم عبر أجيال حتى تشربوا الذل وورثوه توريثاً اجتماعياً لا جينياً –بالطبع-. وإما لشعورهم بالقلة والأقلية وكره الناس لهم جعلهم يشعرون بالحصار والذل والصغار.

وإما لشعورهم بفساد أخلاقهم وفساد نفسياتهم وسوء طوياتهم ورداءة طباعهم وسوء معتقدهم في الله، وعلمهم بإفسادهم وتلويثهم الذمم، وتراكم خطاياهم جعلهم هذا كله يشعرون بالذل والصغار. المهم أن الكلام ليس كما قال: "ليس يقر على دينه إلا أن يكون من أهل كتاب" وهل نحن نملك أن نقرّ أو لا نقرّ ألف مليون هندوسي يعبدون البقرة؟ ونملك أن نقرّ أو لا نقر ألف مليون آخرين يعبدون بوذا، وألف مليون ثالثين لا يعبدون إلهاً قط في الصين؟ فما هذه الأقوال؟ وما أحوجنا إلى مراجعة التراث وغربلته من التراب..).
ومع الحبال "وحبل الناس" الذي "يبرطع" في حمايته بنو صهيون لنا عود يكون إن شاء الله ولم تدركنا المنون.

2-    الحلقة الثانية في التعريف بكتاب حبال من رمل/ قصة إخفاق أمريكا في الشرق الأوسط.
يقول المؤلف "ايفلاند" في الفصل الأول الذي جاء تحت عنوان: "سِفر التكوين": (ولاحظ التأثر الثقافي باليهود) "في 8/1/1918 أعلن الرئيس وودروويلسون عن خطة من أربعة عشر بنداً ترمي إلى إيصال الدول المتحاربة إلى سلام بدون منتصرين. (لاحظ أنها خطة أمريكا في ليبيا!)" ثم ذكر مساعدات أمريكا لهذه الدول (أوربا) والبلدان التي كانت تحت الحكم العثماني (طبعاً مع الفوارق في المواقف والمساعدات!) وذكر أن حلفاء أمريكا (يقصد بريطاني وفرنسا) كانوا يتلهفون لاقتسام هذه البلدان، (ليست أمريكا بلد أخلاق وإنما هي تريد هذه الدول لنفسها!) لاقتسامها بعد تخليصها من النفوذ العثماني. (وهو الذي كان على كل حال!) وقبل الحلفاء مباديء ويلسون بدافع الحصول على مساعدات أمريكية من أجل تعمير ما هدمته الحرب. وتبنت آنذاك عصبة الأمم هذه المبادئ. (ما زالت هيئة الأمم المتحدة تصنع الشيء ذاته تتبنى ما تتقدم به أمريكا!) تبنت (العصابة) أو عصبة الأمم الوصاية على دول الإمبراطورية العثمانية، ومراقبة انتقالها إلى الاستقلال. (كما راقبت انتقال العراق بعد صدام إلى الديموقراطية والحرية والتقدم الاقتصادي!!)
وكان الحلفاء قبل ذلك قد اقتسموا فيما بينهم أماكن النفوذ، وصاغوا العديد من الاتفاقيات حول العديد من القضايا، وذلك لتأمين مصالحهم، وقد حددت بريطانيا وفرنسا مطالبهما في اتفاقية سايكس-بيكو. مستهدفين إنشاء دولة عربية واحدة، أو كونفدرالية ضمن نفوذهم (نحن لم نكن ندري ما الذي يجري. كنا نرقص ولا ندري أين نحن ولا كيف تتجه الأمور!)
ومع أن بريطانيا منحت حق المرور إلى الموانئ: حيفا وعكا فإن فلسطين (لاحظ الاهتمام!) قد وضعت تحت نوع من الإشراف العالمي (خلي بالك من العالمي!) لتأمين الدخول إلى الأماكن المقدسة: المسيحية والمسلمة واليهودية.. (هم لا يضعون يدهم في شيء إلا أفسدوه! وهل كانت هذه الأماكن ممنوعة على أحد ممن ذكر. ولاحظ النص على الثلاثة بلا سيادة يعني نعومة وبساطة: سحبت منا السيادة وعظم الله أجركم!).

وكمكافأة للعرب لاشتراكهم في الحرب ضد تركيا(!!) ضمنت بريطانيا الاستقلال للأسرتين المتنازعتين في شبه الجزيرة العربية (لاحظت الصياغة الدبلوماسية الزئبقية المدهشة!): الوهابيين تحت حكم الأمير عبد العزيز. (لاحظ!) والهاشميين تحت حكم الأمير حسين.
ولم تكن وعود بريطانيا لهاتين الأسرتين متناقضة فحسب، ولكن تعهداتها بأن يحكم فيصل دولة عربية عاصمتها دمشق تعارضت تماماً مع معاهدة س.ب. التي قضت بنودها أن تكون سوريا ضمن منطقة النفوذ الفرنسي.

وأخلّت بريطانيا سنة 17 بوعودها للعرب كذلك، وأعلنت وعد بلفور وبذلك برهنت على أنها تنظر نظرة رضى لتأسيس "وطن قومي" للشعب اليهودي في فلسطين. بشرط أن لا يسيء ذلك إلى الحقوق المدنية والدينية والأوضاع السياسية لجماعات السكان الأصلية من 
غير اليهود. (لاحظت الصياغة الشيطانية! فأولاً جماعات السكان الأصلية. هل تذكر سكان استراليا الأصليين وسكان كندا الأصليين؟ هذا هو حال الهنود السمر –يعني نحني يا خيوه-. وثانياً هل لاحظت عبارة من غير اليهود، يعني أن الأصل هو اليهود ووجود الآخرين هو العارض والطارئ. وهل لاحظت ثالثاً: الحقوق المدنية وهذه مضمونة نظرياً لكل "الموجودات"، وهل لاحظت "الأوضاع السياسية" هل لها معنى محدد؟ ومن الذي يشرحه إن اختلفنا؟ حقل ألغام والسلام ووقعوا يا كرام وامسحوها بهاللحية!)
ونشرت الحكومة الروسية الاتفاقيات السرية لاقتسام المنطقة. ولتتلافى بريطانيا ثورة الشعوب جددت الوعود بمنح العرب استقلالهم.

وفي سنة 18 أعطى ويلسون العرب الذين كانوا تحت حكم العثمانيين ضمانات بحياة حرة واستقلال ذاتي (فاهم شي؟!) وصار لدى العرب مسوغ قوي للاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستكون الضامن لاستقلالهم الذي نشدوه بعد أربعمئة سنة قضوها تحت الحكم العثماني. (هم مشفقون علينا من هذه القرون من الظلام فنقلونا إلى ظلم أظلم!) (وربما يكون ما قال هذا من توهم العرب أن أمريكا تضمن دولهم واستقلالهم، ربما يكون العرب قد صدقوا هذا أو توهموه، وهذا من نجاح مسلسل الخداع، ووادي الثعالب..).

وفي الفصل الثاني الذي بعنوان: "رحلة في أعماق التاريخ" يتحدث عن نفسه وطفولته في ولاية واشنطن (هو من مواليد 18) ويصف حياة الهنود الحمر في بلدته. وكيف التحق هو بالبحرية. (سنة 40 التحق بالجيش في بوسطن، وسنة 41 دعي إلى مركز المخابرات.

ونقل إليها من البحرية. وقيل له إن أمريكا مقبلة على خوض حرب ولا بد من حماية الداخل فعمل مع C.I.P (وهناك فروع أخرى للسي آي أيه CIC أي المخابرات المعاكسة) على كل حال كانت مهمته مكافحة الجاسوسية. ثم يتحدث عن ضربة "بيرل هاربور" على يد اليابان. وانتهت الحرب في أوربا وعاد من مهماته هناك إلى أمريكا.

ويتكلم عن جماعات صهيونية كانت تجمع التبرعات لشراء الأسلحة للصهاينة الذين يقاتلون في فلسطين ومن لم يعطهم شتم واتهم بالنازية (عادتهم!). ثم تعلم العربية ليسافر إلى ذلك الجزء من العالم الذي باشرت فيه أمريكا للتو مسؤوليات جديدة! ونواصل في حلقة أخرى!

د.أحمد نوفل

البورصة بين الحلال والحرام


الحرام ما حرّم في القرآن والسنة الصحيحة بنصّ صريح. وهنالك من الحرام ما أدخله الفقه من خلال الاجتهاد، ولكن هذا قابل للخلاف من خلال الاجتهاد كذلك، ومن ثم سيظل هنالك من يعتبره حراماً فيحرّمه على من لا يعتبره حراماً ويدخله في المكروه أو في ترجيح تجنّبه.

وكثيرون من الفقهاء لا يحرّمون ما لم يرِد حرامه بنصّ ويعتبرون الأصل في حلال كل ما لم يحرّمه نصا، ولكن إذا تبيّن بالقياس ما يقرّبه من الحرام أو يدرجه في إطاره، أو ما يتكشّف ضرره، كما ضرر الحرام، حُرّم أو اعتبر مكروهاً أو امتنع عنه لضرره وليس لحرمته.
كل ما عدا تحريم الربا والاحتكار والغش والغبن في عالم الاقتصاد لا يُعتبَر حراماً ويؤخذ بحلّه، ومن هنا جاء الاجتهاد في الآونة الأخيرة بعدم حرمة معاملات البورصة أو التعامل بها، وقد اعتُبِرت حلالاً باعتبار شراء الأسهم وبيعها يدخل في إطار حلال التجارة والاتجار سواء بسواء.

الذين قالوا بعدم الحرمة انطلقوا من مبدئين: عدم تحريم ما لم يرد نصّ بتحريمه، كما لم يرد تحريمه باجتهاد سابق من قبل مجتهدي المذاهب. أما المبدأ الثاني فقد اعتمد على الصورة التي قدّمها الخبراء للعلماء بالنسبة إلى البورصة وتعاملاتها، وقد قدّموها باعتبارها تجارة بالأسهم بيعاً وشراء.

لنضع قضية تحريم أو التحليل جانباً من حيث المبدأ، وذلك بهدف البدء بتقديم قراءة دقيقة لمعاملات البورصة بما يتعدّى اعتبارها مجرد تجارة في الأسهم تماماً كالتجارة في السلع أو كشراء العقار والشركات وبيعها في المعاملات الاقتصادية العادية.

هذه الصورة تبسيطية وتضليلية لمعاملات البورصات، وإلاّ كيف نتجت كوارث مهولة في البورصات العالمية وقد طارت مدخرات ملايين وعشرات الملايين من صغار المتعاملين ومتوسطيهم في البورصات، كما يعرف الجميع.

هؤلاء الملايين وعشرات الملايين فقدوا بين ليلة وضحاها كل ما ادّخروه عبر عشرات السنين من التعب والشقاء من أجل تأمين شيخوختهم أو ضمان مستقبل أولادهم، وقد ذهبوا إلى التعامل مع البورصات تحت أوهام الربح وتشغيل أموالهم لمضاعفتها، وهو ما حدث لبعض الوقت لاستدراج الملايين من البشر لوضع مدّخراتهم في معاملات البورصة. ومن ثم يأتي حيتان المال ليجنوا الأرباح من خلال شراء الأسهم رخيصة، ثم بيعها بعد أن تكون قد تضاعفت أسعارها، مما يؤدي إلى انهيار الأسعار أضعافاً عما اشتراها به أولئك الملايين وعشرات الملايين. إنّها عملية تشبه عمليات النصب والاحتيال والمقامرة شبه المضمونة.

وبهذا، بين ليلة وضحاها، تُنهب أموال الملايين وعشرات الملايين من البشر أو مدخراتهم في شركات التأمين والاستثمار، لتزيد ثروات كبار المضاربين في هذه اللعبة القذرة.

لقد أصبح شراء الأسهم وبيعها في عالم البورصات لعبة قائمة بذاتها بعيداً عن أصولها على أرض الواقع، أو تزويراً لموازنات تلك الأصول بهدف رفع أسعارها في البورصة ثم التلاعب بها، ولعل المثل الأبرز ما فعلته شركة أندرسون العالمية للمحاسبة في التلاعب بموازنات الشركات.

ومن هنا يمكن القول أنّ البورصة، في وجه من أوجهها، أقرب إلى القمار المنفصل بالضرورة عن الدورة الاقتصادية الإنتاجية والتجارية الحقيقية على أرض الواقع.

كيف يمكن أن يُقبل أن يأتي كبار المضاربين في البورصات ليشتروا الأسهم، وإيجاد مناخ نفسي بأنّ الأسهم المعنية سترتفع أسعارها فينجذب عشرات الآلاف من أصحاب المدخرات المتوسطة ليتبعوا خطواتهم في شراء تلك الأسهم، مما يؤدي إلى ارتفاعها بسبب قانون العرض والطلب في عالم البورصة، ثم تأتي لحظة بيعها من قبل أولئك الكبار وهي في أوج مُعيّن، وإذا بها بعد ذلك تهوي إلى حضيض لتذهب بملايين المساهمين إلى عالم الإفلاس، هنا تخرب البيوت بأشدّ مما يحصل في الحروب أو الكوارث الطبيعية.

كيف يُقبل هذا من ناحية العدالة والاستقامة ومصالح الناس في التعاملات الاقتصادية، حيث لا يجوز الغش والغبن والاحتكار والخداع، أو الابتعاد عن الاقتصاد الحقيقي للأصول التي تمثّلها الأسهم في البورصات.

انظروا على أرض الواقع ما حدث خلال العقدين الماضيين في عالم البورصات التي أطلقت العولمة لها الحرية في معاملاتها بلا قيد ولا رقيب، وأطلقت تزييف موازنات الشركات الكبرى بهدف رفع أسهمها في البورصة، بلا تناسب مع واقعها الفعلي. وذلك بقصد حصد ثروات المدخرين الصغار والمتوسطين أو المستثمرين العرب الأغنياء الذين فقدوا عشرات أو مئات البلايين في البورصات.

الأرقام تقول أنّ في الولايات المتحدة aوحدها فقط، على الأقل، نصف الأميركيين خسروا مدخراتهم مع انهيار البورصات في ظل عولمة صاعدة إلى قمة مجدها في تسعينيات القرن الماضي، ليتكرر في أوائل العشرية الأولى وأواخرها من القرن الحالي.

من هنا على الذين أفتوا بجواز التعامل بالبورصة أن يعيدوا النظر في ما قدّم لهم من صورة سطحية مشوّهة لحقيقة التعاملات بالبورصة، وبعد ذلك ليعطوا رأيهم أو حكمهم فيها، ليس اعتماداً على عدم ورود نص بتحريم البورصة، حيث لم تكن ثمة بورصة طوال العهود السابقة. ولهذا من بلادة التفكير ألاّ تُدرس البورصة في عصرنا دراسة صحيحة دقيقة معمّقة.

الموقف هنا لا يحتاج إلى أن يطرح على مبدأيْ التحريم والتحليل، وإنّما يجب أن يطرح على المستوى الاقتصادي الصرف، فتحدّد الأضرار والسلبيات والمضار العامة في معاملة البورصة ويُرى ما تحمله أو ما يمارس من الغش والغبن والاحتكار والمقامرة من قبل كبار المتلاعبين في عالم البورصات، وحيث تنهب مدخرات الملايين وعشرات الملايين وتنتفخ، بما يشبه عملية النصب والاحتيال، جيوب حيتان المال الأجانب والمحليين.

ولكن إذا قيل يمكن للبورصة أن تكون مصدراً لحشد الأموال من أجل الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي، فالأمر هنا يتطلّب تغيير اللعبة من أساسها فلا تعود ميداناً للمضاربات. كما يوضع نظام دقيق لشراء الأسهم وبيعها، وتراقب موازنات الشركات بأعلى درجات الحزم والدقة.

أما البورصات في وضعها الحالي ولا سيما ما وصلت إليه في عصر العولمة والاقتصاد الليبرالي سواء أكان في المستوى العالمي أم في البلدان التابعة اقتصادياً، فضررها أكبر من نفعها، وكوارثها دونها كوارث الحروب أو الطبيعة، فلا يجوز أن تلخّص بعدم حرمتها استناداً إلى عدم وجود نص أو تشبيهها بالتجارة التقليدية في السوق.

منير شفيق
المصدر :السبيل
www.assabeel.net 

أميركا والفتن الداخلية بين أمس واليوم


أميركا الضعيفة وشبه العاجزة أخطر من أميركا القويّة والقادرة. طبعاً هذه المقولة متناقضة من حيث المنطق للوهلة الأولى، ولكنها تعبّر عن واقع نشهده اليوم في عدد كبير من الوقائع، والمنطق الذي يخالفه الواقع لا يبقى منطقاً صحيحاً، ولا بدّ من إعادة النظر فيه بالنسبة إلى الواقع الذي خالفه في الأقل.

أما تفسير كيف تكون أميركا وهي ضعيفة وعاجزة أشدّ خطراً على العرب والمسلمين مما كانت عليه وهي القوية القادرة أو وهي الأقوى بين الدول الكبرى فيحتاج إلى مقارنة بين حالتيها قويّة وضعيفة.

أميركا القويّة والقادرة كانت تأتي إلى المواجهة مباشرة، وكانت تتصدّر الهجوم ولا تقبل أن يشاركها أحد في تقرير مصير هذه القضيّة أو تلك، فهذا ما فعلته على سبيل المثال حين مضت إدارة كلينتون في عملية التسوية.

وهذا ما فعلته إدارة بوش الابن في عملية العدوان على العراق وفرض ما أسمته صوْغ الشرق الأوسط الكبير أو الجديد. وكذلك عندما تحرّك الكيان الصهيوني ليشنّ حربين عدوانيتين إحداهما على لبنان في يوليو/تموز 2006 وثانيتهما على قطاع غزة 2008/2009 كانت أميركا مباشرة وراء الحربين، وقادت الحملة السياسية لتغطيتهما والمفاوضة بخصوصهما.

وقد اقتُصِر على هذه الأمثلة باعتبارها طازجة، وعاش تفاصيلها أهل هذه المرحلة التاريخية. هذا وثمة أمثلة أكثر من الماضي.
حاولت إدارة أوباما أن تحافظ على دور أميركا ولو على مستوى أدنى من السابق بسبب بدء ظهور علائم الضعف والعجز. ولكن مع بداية العام 2011 كان الضعف الأميركي والاختناق بالأزمة المالية ظاهرتين يلمسهما الكثيرون من المحللين السياسيين، وهنالك من أخذ يتعامل ومقولة أن أميركا أصبحت ضعيفة وشبه عاجزة وكأنها مسلّمة لم تعد قابلة للنقاش.

فمع اندلاع الثورتين الشبابيتين في تونس ومصر بدا الارتباك واضحاً في مواجهة أميركا لهاتين الثورتين وهما تُطيحان بحليفين من الدرجة الأولى لأميركا، ثم وصل الأمر إلى حدّ الترحيب بتنحّي حسني مبارك وزين العابدين بن علي من دون أن تمدّ يد الإنقاذ كما كانت تفعل في السابق، وهي ما زالت حتى الآن بلا إستراتيجية هجومية عدا بوادر أخذت تظهر في منطقة المحيط الهادئ ونشر الصواريخ المضادّة للصواريخ ضدّ روسيا والصين وإيران.

بالتأكيد كان السبب وراء هذا التغيير يعود إلى الضعف أو في الأدّق إلى ما حدث من اختلال في ميزان القوى العربي والإقليمي والعالمي في غير مصلحة أميركا والكيان الصهيوني، وقد تشكل هذا الاختلال بسبب الفشل الذي مُنِيَ به مشروع إعادة صوغ ما يُسمّى «الشرق الأوسط الكبير»، وفي المقدّمة الفشل في حربي 2006 و2008/2009 وفي انهيار احتلال العراق ومأزق الاحتلال في أفغانستان أمام المقاومات والممانعات.

ثم بسبب نشوء أقطاب دولية وإقليمية تعاظمت أدوارها من روسيا والصين والهند والبرازيل وإيران وتركية وجنوبي أفريقيا، إلى صمود قوى ممانعة مثل فنزويلا وسوريا وبوليفيا. أما السبب الثالث البالغ الأهمية أيضاً فجاء من الأزمة المالية الاقتصادية الممتدّة من 2008 حتى الآن.

وبكلمة أصبحت أميركا ضعيفة وعاجزة، ولم تعد قادرة على صنع الأحداث والتحكم في مصائر الصراعات، ولم يعد هنالك من يناقش بالقول إن أميركا اليوم هي أميركا الحرب الباردة، أو أميركا عقدي 1990-2010، أو ينكر ما يظهر عليها من ضعف. ولكن مع ذلك ما زالت هيبتها قائمة وما زال الكثيرون يستنجدون بها أو يعتبرون كل ما تفعل نابعاً من قوّة وقدرة ولكن أحدثت تغييراً في الأسلوب. ولكن ما تفسير هذا التغيير؟ أليس الضعف.

يُروى أن أسداً كان في غابة قريبة من قرية ملأ قلوب أهلها رعباً وقد كثرت الأحداث التي بطش فيها بأهل تلك القرية، ولكنه بعد أن استوفى عهد الفتوة والشباب وتجاوز عهد الكهولة وبدأ يشيخ خرج له عدد من شباب القرية وعادوا به محمولاً على ما يشبه النعش، وقد فارقته الحياة. وعندما شاع الخبر تراكض أهل القرية ليشهدوه مسجّى، وقد أصبح ميتاً لا حول ولا قوّة فيه. ولكن لسوء حظهم هبّت ريح قوية وإذا بشعر غرّة الأسد يشرئبُّ كعادته عندما يهمّ بالوثوب على فريسته. فما كان من أهل القرية إلا أن ولّوا هاربين وقد ظنوه عاد حياً مفترساً.

كثيراً ما يحدث مثل هذا مع الدول الكبرى وهي تولي الأدبار أن تظل هيبتها قائمة بعد أن تفقد قوّتها، فيظل الوهم حاضراً ليستيقظ عندما يبدو منها حراك ليس فيه من حول أو طول.

من يتابع السياسات الأميركية إزاء الأحداث التي صنعتها الثورات الشعبية العربية، وموازين قوى لم تعد في مصلحة أميركا والكيان الصهيوني أو الغرب عموماً، يلحظ أنها أصبحت في وضع الذي يركض وراء الأحداث ولا يصنعها، أو في وضع الذي يحاول ركوب موجها من دون أن يكون الممسك بأعنّتها. فقد خرجت عن أن تكون في المواجهة مباشرة، وإنما أصبحت القوى المحلية والإقليمية هي اللاعب الرئيس في المواجهة.

فأميركا تتدخل من خلال التصريحات والأجهزة الأمنية والدعم الإعلامي وحشد حلفائها، أو من خلال نفوذها في هيئة الأمم أو بعض المنظمات غير الحكومية. واللافت في التدخل في ليبيا أنها حوّلته إلى فرنسا وبريطانيا والناتو، وتدخل الطيران بعد أن ضمن عدم مقاومته بالصواريخ أو المضادات مع تدخلٍ من خلال المدربين، فيما المعارك على الأرض قرّرها - في نهاية المطاف - اللاعبون المحليون.

هذا التغيّر الذي حدث أدّى إلى انتقال الدور إلى اللاعبين المحليين والإقليميين، فيما الدور الأميركي راح يؤثر من خلال هذا الطرف أو ذاك من اللاعبين الرئيسيين. ولهذا يجب ألا يُعامَل كما كان الحال عندما كانت أميركا اللاعب الأول في المواجهة، فالتغيير هنا - من حيث إدارة الصراع - نوعي وليس كمياً أو ثانوياً.

فمن يدير عملية الصراع حين أصبح الدور الرئيس فيه للاعبين المحليين والإقليميين كما كان يديره عندما كان الدور الرئيس في الصراع لأميركا والكيان الصهيوني لا يكون قد ضرب حيث يجب أن يضرب أو عالج حيث يجب أن يعالج.

انتقال الصراع إلى القوى المحلية والعربية والإقليمية وضع تلك القوى في مواجهة بعضها مباشرة، الأمر الذي راح يفسح المجال لأميركا وأوروبا لصبّ الزيت على نار الانقسامات الداخلية لتحويلها إلى طريق الفتن المذهبية والإثنية والدينية، أو تحويل ما هو صراع سياسي إلى صراع حول المرجعية بين الإسلاميين والعلمانية ليدخل بدوره إلى الفتنة الأيديولوجية.

الأرض المحلية على المستويات القطرية والعربية والإسلامية أصبحت مع انكفاء الدور المسيطر لأميركا والغرب والكيان الصهيوني، أكثر قابلية للوقوع في الفتن المذهبية والدينية والقومية والأيديولوجية. وهنا يبرز الدور الأشدّ خطورة لأميركا وهي ضعيفة ومتراجعة عما كانت عليها وهي قويّة صانعة للأحداث.

صحيح أن هدفها واحد في الحالتين، لا سيما بعد انتهاء الحرب الباردة في ما يتعلق بسياساتها العربية والإسلامية، وهو تجزيء المجزأ والوصول إلى الدويلات الفسيفسائية «الشرق أوسطية» من خلال زرع الانقسامات الداخلية وتحويلها إلى فتن. ولكنها عندما كانت في الهجوم راحت تقوم بالدور الرئيس وعلى المكشوف وباستخدام التدخل الخارجي المباشر، فعلى سبيل المثال هي التي احتلت العراق ودمرّت دولته وكانت السبب الرئيس في إثارة الفتن الداخلية.

على أن الذي حدث الآن، وبعد انكفاء أميركا وفشلها وأزمتها المالية أن دخلت القوى المحلية من خلال الثورات في عملية إعادة بناء الأنظمة وإقامة توازن جديد ما بين مختلف مكوّنات القطر وقواه السياسية، كما على المستويين العربي والإقليمي.

هذه العملية تفتح باب الصراعات المختلفة على مصراعيه. فقد انفتح الأفق الآن على صراعات سياسية وأيديولوجية واجتماعية قد تمتدّ إلى صراعات تمسّ المكوّنات المذهبية والطائفية والدينية والقبلية والقومية، الأمر الذي سيطرح على كل طرف السؤال كيف سيدار الصراع وبأي اتجاه ونحو أيّة أهداف؟ وسيكون أخطر الخيارات الانتقال إلى الفتن، وأسوؤها الفتنة السنيّة الشيعية، أو العربية الإيرانية أو الإيرانية التركية أو التركية العربية.

هنا تتحوّل أميركا في ضعفها لتكون أخطر على المنطقة منها في قوّتها، لأنها حين تصبّ الزيت على الفتنة وتذكيها من خلال تدخلها العسكري المباشر - هي أو الكيان الصهيوني أو الأطلسي - تجعل بوصلة الصراع تتجّه إليها مباشرة لأنها في الميدان، الأمر الذي يجعل مقاومة الفتنة أيسر وأسهل. ولكن حين تتحرّك من بعيد في دعم أطراف تلعب الدور الرئيس في الصراع لتوقد من خلالهم نيران الفتن، فإن مقاومة الفتنة تصبح أشدّ صعوبة وتعقيداً في إدارة الصراع.

فالمسؤولية اليوم مباشرة على أطراف الصراع المحلي والإقليمي في الذهاب إلى الفتنة أو تَوَقّيها فهي ليست مفروضة عليهم بالقوّة الأميركية المسلحة كما كان الحال في المراحل التي كانت فيها أميركا الأقوى والمبادرة وصانعة الأحداث.

طبعاً ثمّة أطراف تريد الدخول في الفتنة أصلاً، ولكنها في الواقع الراهن هي الأضعف دوراً في ما بين الأطراف المتصارعة. وهنالك أطراف قد تجرّ إلى الفتنة من دون أن تتقصدّها أو تريدها، بسبب أخطاء في إدارة الصراع وتقدير الموقف وعدم السعي لحل الخلافيات بالحوار المعمّق والجاد، أو بسبب عدم حصره في حدوده السياسية ودون سقف الفتنة، أو تلخيص الصراع بأنه بين «فسطاطين» لا مكان فيه للتداخل والتقاطع واللون الرمادي، أو الحوار.
 













 

تسليم المجلس العسكري للسلطة ورئيس علماني ودستور مدني

الدكتور عمرو حمزاوى: الحديث عن الفوضى القادمة هدفه منع المطالبة برحيل المجلس العسكرى
يقول حمزاوى: ما حدث منذ 11 فبراير الماضى بعد سقوط الرئيس المخلوع مبارك «طبيعى».. بعد أى ثورة حيث تتعطل شرايين الحياة وتتضارب الاتجاهات و الآراء، مؤكدا أن الأيام الحالية تحتاج إلى وضوح رؤية وإلى خارطة طريق تضمن تحقيق مطالب الثورة وحفظ كرامة الجيش المصرى.

* هل ترى أن ما يحدث الآن على الساحة فوضى مدروسة أم ارتباك طبيعى بعد أى ثورة؟
- أنا مختلف مع تعبير الفوضى لأن ما يحدث أن هناك مسارين: الأول هو مسار «احتجاج شعبى سلمى» مستمر منذ 11 فبراير الماضى يطلب بدأب وإلحاح وجسارة تحقيق مطالب الثورة التى يمكن تلخيصها فى هذه اللحظة فى «نقل السلطة إلى حكم مدنى منتخب» إلى جانب العدالة الاجتماعية وقضية الشهداء، وهناك مسار ثان فى اتجاه بناء نظام ديمقراطى وفى مثل هذه اللحظة من الطبيعى أن تحدث بعض الأشياء مثل تعطل شرايين البلد الاجتماعية جزئيا ومثل حدوث شىء من عدم الاستقرار، والمطلوب أن يحدث حوار بين هذين المسارين من أجل بناء مؤسسات الدولة.

* كيف ترى انخفاض شعبية المجلس العسكرى إلى هذا الحد وما تقييمك لمجمل أدائه؟
- منذ فترة طويلة تجاوزت 5 أشهر لم ألتق أيا من قيادات المجلس العسكرى والمسألة باختصار أن المجلس قد تعثرت إدارته للبلاد أثناء المرحلة الانتقالية نتيجة لمجموعة من الأخطاء المتراكمة، وفى ظنى أن الأزمة الحالية حلها فى ضرورة التوافق على حل سياسى يحفظ ويضمن كرامة الجيش كمؤسسة «ضامنة» لاستقرار البلاد والدفاع عن حدودها.

* الأخطاء المتراكمة يرى البعض أنها لا تخص المجلس العسكرى فقط بل جزء منها يرجع للنخبة والتيارات والأحزاب السياسية التى بدت كثيرا مشتتة وانتهازية وغير متوافقة؟
- هذا التوصيف دقيق نسبيا لأنه لا توجد «مؤسسة» تفاوض المجلس ولهذا فأنا متفائل بدور مجلس الشعب القادم وعلينا فى نفس الوقت ألا نبالغ فى تضخيم الانتهازية التى تصرفت بها بعض التيارات السياسية.

* هل ترى أن نسبة التيار الإسلامى فى البرلمان القادم ستجعله برلمانا مشوها ولا يعبر بدقة عن الروح والشارع والثقافة المصرية؟
- نجاح التيار الإسلامى وفوزه بهذه النسب الكبيرة من المقاعد يرجع إلى أن هذا التيار جديد على الشارع وقد قام بتنظيم نفسه جيدا إضافة إلى أن الفترة لم تكن كافية لدى التيارات السياسية الأخرى لتنظيم نفسها فى تحالفات تواجه التيار الإسلامى سياسيا، لكننى غير منزعج من هذا وأؤكد أن البرلمان القادم سيشهد ظاهرة النائب الذى يساوى أداؤه ودوره وتأثيره مائة نائب.

* الحديث عن «المؤامرة الخارجية» يتصاعد هذه الأيام .. فى أيام مبارك كان المكون الأمريكى والإسرائيلى هو الغالب على القرار المصرى.. كيف ترى دور أمريكا فى صناعة القرار حاليا؟
- الكلام عن الدور الأمريكى والإسرائيلى كلام يمتهن الدولة المصرية وفى وضع دولى وإقليمى معقد لا تستطيع قياس نسب وأوزان أى دولة على القرار الوطنى بهذه البساطة لكن من أهم ما جرى فى مصر بعد الثورة أن هناك نسبة كبيرة من استقلال السياسة الخارجية لمصر.

* جزء من الارتباك الحاصل يرجع إلى الإعلام كيف ترى دور الإعلام المصرى الآن؟
- هناك أزمة لا شك فيها فى مهنية وأداء الإعلام المصرى وأظن أن مجلس الشعب القادم عليه دور كبير فى ضبط أداء الإعلام المصرى من خلال تشريعات تضمن حرية تدفق المعلومــات و تمنع أى ضغوط عن الأداء الإعلامى فى إطار منظومة تشريعية متطورة.

* هل تتوقع حدوث اضطرابات كبيرة فى 25 يناير القادم ومع الاحتفالات بمرور عام على الثورة؟
- الحديث عن اضطرابات أو فوضى مبالغ فيه ويفتقد معلومات تحدد بالضبط «عمن يتحدثون» من يقولون بأن هناك مخططا لنشر الفوضى فى مصر والهدف الظاهر من تضخيم هذا منع مطالبات شعبية ضخمة فى ميدان التحرير فى أول احتفال بالثورة برحيل فورى للمجلس العسكرى وتسليم السلطة للمدنيين وكل هذا ناتج من عدم وضوح الرؤية وعدم وجود خطة محددة تسارع بإجراءات نقل السلطة منعا لاحتكاكات قد تتكرر بين الشارع وبين الدولة سواء من خلال الجيش أو الشرطة وربما لهذا قدمنا أنا والدكتور مصطفى النجار مبادرة تضمنت 7 محاور نعمل من أجل الحصول على دعم واسع لها من نواب البرلمان وفى حال ذلك ستكون من خلال هيئة منتخبة وشرعية والمبادرة تضمنت نقل السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة للبرلمان المنتخب والرئيس المنتخب فى أسرع وقت عبر تبكير الانتخابات الرئاسية لتصبح فى أول إبريل وتضمنت المبادرة دعوة مجلس الشعب المنتخب فى جلسته الأولى فى 23 يناير 2012 لاستخدام صلاحياته لتشكيل لجنة برلمانية لإدارة التفاوض مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة حول استكمال إجراءات نقل السلطة وتشكيل لجنة للتحقيق فى جميع انتهاكات حقوق الإنسان والاعتداء على الأرواح التى وقعت منذ 11 فبراير الماضى وتشكيل لجنة لضمان حقوق شهداء الثورة ومصابيها الذين يتعين الاحتفاء بهم و تكريمهم فى أول جلسة للمجلس وكذلك أن ينتهى مجلس الشعب خلال أسبوعه الأول من وضع قانون انتخابات الرئاسة والدعوة لفتح باب الترشح لانتخابات الرئاسة فى أول فبراير مع الأخذ فى الاعتبار جميع شروط الترشح المذكورة فى الإعلان الدستورى وتنص المبادرة أيضا على الضغط والتبكير فى انتخابات الشورى بحيث تجرى على مرحلة واحدة خلال الأسبوع الأول من فبراير وفتح باب الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية فى نهاية فبراير وإجراء انتخابات الرئاسة فى أبريل ثم عودة القوات المسلحة لنقل صلاحيات رئيس الجمهورية للرئيس المنتخب.

* تنتشر على مواقع اليوتيوب والفيس بوك صور لبعض شباب الثورة وهم يقلدون طريقتك فى الحديث مع دعوات البعض لترشيحك فى انتخابات رئاسة الجمهورية تعبيرا عن التيار الليبرالى الحقيقى و يؤكد أصحاب هذه الدعوة أن البرادعى تعرض لحملة تشويه واسعة وأنك ربما تكون الأنسب لهذا؟
- إذا كان البعض يقلد طريقتى فى الحديث فأنا لابد أن أكون سعيدا بهذا أى أن يعتبرنى هؤلاء نموذجا يثير الاهتمام لكنى لم أفكر فى قضية الترشح للرئاسة وأركز فقط فى البرلمان المقبل باعتباره الضمانة الأساسية للتحول الديمقراطى وبدء بناء دولة عصرية طال اشتياق المصريين لها. 


كتبه محمود صالح

السلفيون سيتحكمون فى الفكر الإسلامى.. والأزهر لن يكون له دور يذكر


عقيرة البعض تعالت بتشميع التماثيل حتى لا نعبدها من دون الله، وهدم الكنائس لأنه يُعبد فيها غير الله، وفرض الجزية على المسيحيين لأنها شريعة عثروا عليها داخل الأنفاق المظلمة لتراثهم المنقول عن أسلافهم، ومنع سياحة الأجانب لأنهم يشربون الخمر ويرتدون المايوه على الشواطئ، وإلزام المصريات بالحجاب قسرا وإجبارهن لأنه شريعة الله، ودفع الناس لصلاة الجماعة لأنها هى الأصل، ولأن من يصلى فى بيته بلا عذر فيحق للإمام حرقه بالنار، وتحريم حلق اللحية بفرض غرامات على الحلاقين الذين يحلقونها لزبائنهم لأن حالقها يرتكب الحرام، وأحقية الزوج فى ضرب زوجته لتأديبها لأن زعمهم أملى عليهم بأن الشرع أباح له ذلك، وربوية البنوك وتحريم الفن وتحريم خروج المرأة، وغير ذلك مما تعلمونه من دروبهم التى يتصورها السذج إسلاما وشريعة.

بل لقد بلغت بهم الفوضى الفكرية تدشين لجماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، تلك الجماعات التى تكون مهمتها دفع الناس لأداء الفرائض وارتداء النساء للحجاب، ألا يفهم هؤلاء بأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان طواعية وخالصا لوجهه، كيف نقهر الناس على الطاعة وقد قال تعالى: «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» البقرة.256 بل لقد جعل الله أخطر قضية وهى العقيدة فى حرية فقال تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ... » الكهف .29

إن هذا التوجه البدوى ينذر بحرب أهلية بمصر، فمصر غير دول الخليج، والحضارة هنا أصيلة وليست مستوردة، عميقة وليست على السطح، فجماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هى جماعات التصدى للحضارة من منطلق المفهوم البدوى للشريعة.

وسوف تموج البلاد طولا وعرضا بالفوضى التى ستخلفها مناهج الفكر السلفى الوهابى على أرض الواقع، ولن يكون للأزهر دور يذكر اللهم إلا موقف المتفرج من بعيد، لذلك أتوقع عاما جديدا كئيبا على البلاد، ولن تتحرك السياحة من توقفها، فقد صنفت مصر كدولة راعية للفكر المتطرف، لذلك ستتجه السياحة العالمية بعيدا عن أرض الكنانة، لكن أبشروا يا من ملأتم صناديق الانتخاب ففاز الإخوان والسلفيون باختياركم لهم، فسيتم تصنيف دولى لمصر أعلى من رعاية الفكر المتطرف وهو رعاية الإرهاب، فأعضاء مجلسكم الموقر يرون البطولة والفداء فى أمثال بن لادن والظواهرى اللذين قتلا من المسلمين أكثر ممن قتلوا من غيرهم، وقتلوا من النساء والأطفال أكثر ممن قتلوا من الرجال، وقتلا من المدنيين أكثر ممن قتلوا من العسكريين ومع هذا فقد رأينا صورته - رحمه الله - عالية فى جمعة قندهار بميدان التحرير، ولم يرفعها إلا ناخبوكم.

ولسيطرة السلفية على الأزهر فهم يقولون دوما بضرورة استشارة مجمع البحوث الإسلامية، وهذا ما أحذر منه وأنبه - بشدة الأب الحانى - على تتبعه ووأده، فأكثر رجال الأزهر باتوا يناوشون لأجل معايشهم من فرط إهمال الدولة لهم، لهذا فقد ارتموا فى أحضان وهابية العصر المسماة بالسلفية لأجل خاطر البترودولار عسى أن يصيبهم الله من نفحاته.

∎ عبث وهابى
إن العمل ضد الثورات الشريفة هو دأب دول بالمنطقة كانت تستفيد دوما كلما ضعف نظام الحكم بمصر، وهل كان للصوت السلفى أن يرتفع إلا بأموال تتدفق باستمرار لنشر الفكر الوهابى عبر الأقمار الصناعية، فبعد أن كانت السلفية تُحرِّم التلفاز، أصبح أتباعها ومشايخها نجوما به، إن الأموال التى يتم دفعها لنشر الدعوة الوهابية على القمر الصناعى (نايل سات) كلها بترولية.

وبعد أن كانت الديموقراطية بدعة وضلالة صارت حلالا بلالا وعذبا فراتا؛ ثم وفجأة أصبح رجال السلفية فى مقدمة المرشحين لمجلس الشعب، هكذا بلا تأهيل سياسى ولا فهم قانونى أصبحوا فى صدارة المشهد التشريعى بالبلاد؛ فهل هذا من الإخلاص لدين الله أم للإخلاص فى الوثوب على كعكة الحياة.

وهل الاستيلاء على الأزهر هو أحد الأطماع التى تعمل لأجلها دول تعمل على إضعاف الأزهر بإنشاء طابور خامس وهابى به؟، وهل من بصر وبصيرة لنكشف زيف هذه الأفكار البدوية التى تفرح لإسلام كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين، أو الزانية الشهيرة، وتقيم لهن المظاهرات، وكأنهم بدار الأرقم ابن أبى الأرقم يهللون ويكبرون عند إسلام فتى واحد أو فتاة، إنه الفكر السلفى البدوى الذى لا يتطور أبدا مع مرور الزمن عليه، وهو الفكر الذى يعمل على عواطف العامة ليجمع حوله القلوب الساذجة فيتقوى بها.

∎ تعرية الرجولة
بينما لا تكاد تسمع همسا يشجب الاعتداء على فتيات ونساء مصر فى شوارعنا، حيث تمت تعرية الرجولة المصرية حين سحلت المرأة أو أراد من أراد أن يقيم عليها حفلة، أو تلك التى شج رأسها وكسرت يدها وغيرهن كثيرات، فأين النخوة السلفية من هذا المعترك، لم نسمع سلفيا واحدا يطالب بتطبيق شريعة القصاص على الضباط والجنود الذين سحلوا وضربوا وشجوا الرؤوس للنساء والرجال على السواء، فهل يا ترى ستستبدلون عقوبة الحبس بعقوبة السحل والشج للرؤوس لأن الله تعالى قال: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم»، وقوله سبحانه «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به»؛ فأين أنتم من المناداة بتطبيق الشريعة، أم ستكونون مثل دول تطبقها على الشعب ولا تطبقها على الأمراء؟؛ نحن لا نعارض الشريعة ولكن نعارض فهم البداوة للقرآن والسنة.

إن الدول التى تغذى السلفية الوهابية بمصر لا تريد لمصر إلا أن تظل فى أوحال نظام ترتاح له تلك الدول، وهل يكون التظاهر ضد الحاكم حراما بينما يكون التظاهر السلفى فى وجه الإمام الأكبر شيخ الأزهر حلالا؟، كيف يفكر ذلك الصنم السلفى المتناقض الذى ثار وتظاهر ضد شيخ الأزهر؟.

إن الأزهريين أتباع المنهج السلفى ليسوا خطرا على الأزهر فحسب، بل هم خطر على مصر بأسرها، والسلفية عموما هى الخطر الناعم الذى يتوغل باسم الدين بل يزعمون زورا أنهم يمثلون صحيح الدين، وما هم إلا مجموعة من حفاظ النصوص بلا روح.

وهل الطعن فى شيخ الأزهر تارة والمفتى تارة، والبابا شنودة تارة ثالثة، وإشاعة فكرة العلمانية ضد المثقفين من أبناء مصر، والتظاهر فى مواجهة الكاتدرائية، وحرق الكنائس بل وهدمها بالبلدوزر، والاستيلاء على المساجد، وهدم قبور الصالحين، أمر تغذيه ثقافة فقط أم يغذيه فكر ومال دول يجرى الدولار بباطن أراضيها بترولا لخدمة ذلك الفكر.

إن محاولة زعزعة استقرار الدولة بافتعال هياج فى كل مكان، والطعن فى كل ما هو غير سلفى، لا يمكن لداعية سلفى أن يقوم به بمفرده، ولا تنهض به إلا دول بترولية تنتحب لقرب زوال ملكها الفكرى بمصر، فتكون السلفية هى الأداة، ويكون الأزهر هو الهدف والكعكة التى ستقدمها تلك الدول لرعاياها الوهابيين من أهل السلفية.

∎المفكر الساقط
إن السلفية تقول بأنها تتبع القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، فهكذا نشرت جريدة الأهرام قول كبيرهم، وهو ما يرددونه فى مجامعهم ومقابلاتهم وبالتلفاز، ومن لا يتعمق قد يغتر بمثل هذا المنهج ذى الأصول البراقة، فالجزء الأول منه يقوم به كل المخلصين لدينهم، أما الجزء الثانى وهو عبارة «بفهم سلف الأمة» فهو الطامة الكبرى.

فلقد اختلفت السلفية على ثلاث فرق فى تفسيرهم لمفهوم سلف الأمة، فمنهم من قال إنهم الصحابة، ومنهم من قال الصحابة والتابعين، ومنهم من قال بأن السلف هم رجال الثلاثة قرون الأولى.

وأيا كان وجه الحق فى معنى السلف، فإن تعبير «فهم سلف الأمة» يحمل تحجرا فكريا غير مسبوق، بل ومخالف لكتاب الله، بينما يصوّر السلفيون للناس بأننا نكره الصحابة، فهكذا يداعبون عواطف السذج، بينما هم يصنعون الزيف ويمكرون بالإسلام، إذ إن ارتباط المسلم بفهم سلف الأمة يحمل فى طياته إنشاء العصمة لمفهوم السلف، فيكون لدينا نص معصوم وهو القرآن، وفهم معصوم وهو فهم السلف، وبهذا نكون من المبتدعين المخالفين لكتاب الله القائل: «..هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى» النجم 32 لأننا نكون قصرنا التدبر والفهم على السلف الصالح، ويتعطل تنفيذنا لكل آية تقول: «أفلا تعقلون، لقوم يتفكرون، إن فى ذلك لآيات لأولى الألباب.. إلخ» لأنه لا فهم ولا لب ولا عقل إلا عقل السلف، وهو الخطيئة الكبرى التى تمارسها سلفية الوهابية.

بل تراهم يقولون قولا عجيبا ومصطلحا فاسدا وهو اجتهد لكن لا تختلف، ففيم الاجتهاد إن لم يثمر عن اختلاف، ولأنهم أساطين الخلاف لذلك فهم لا يحبون الاختلاف، لهذا صنعوا أصناما من قول السلف ظلوا لها عاكفين، وقالوا بالبدعة عن كل جهد وفكر للخلف، بل من عجائب فقههم ألا تقود النساء السيارات بينما يبيح ذات الفقه أن ترضع النساء الرجال.

وليفهم أتباع السلفية أن أساطين دعاتهم لا يحملون علما قدر ما يحملون تحجرا وتخلفا فكريا يسمونه إسلام، وهنا يبرز الدور الفكرى للأزهر الذى يريدون الاستيلاء عليه وقيادة سفينة الفقه للخلف بسلفيتهم المدعومة بالدولار والريال والدرهم.

إن على أتباع دول النفط اعتزال ذلك الدين الجديد الذى يطلقون عليه إسلام، وما هو من الإسلام فى شىء، بل صدق شيخ الأزهر حين قال عنهم بأنهم خوارج العصر الحديث، وأضيف بأن مصر لا ترتضى أن تستولى حفنة بشرية ساقطة فكريا على الأزهر، مهما كان دعمها، فمصر بلد عريق وشعب أصيل وثقافة ضاربة فى عمق التاريخ، ولسنا قشورا فكرية يزرعها الشياطين اليوم ليجمعوا ثمرتها بعد ساعة من الزمن، فمهما كان دعمهم أو علمهم فلن يفلحوا إذا أبدا.

∎ فرص الأزهر
وعلى الأزهر المقاومة، وأول خطوطها تعديل مناهجه لتتواءم مع العقل والنقل والحضارة، فعيب جدا على رجالات الأزهر والواحد منهم أوسع علما من كل الأئمة مجتمعين، أن يستظلوا بفقه غريب عن البيئة التى نعيشها، فقه صدر عن عقول لا تعرف لحضارتنا معنى، وليعلم الأزهر بأنه إن كان السلف صالحا فنحن أصلح منهم، هذا بالطبع باستثناء الصحابة رضوان الله عليهم، لأنه ليس من بيننا من دس الحديث على النبى، ولا من قتل أخاه، أو افتعل الحروب، أو رجم الكعبة بالمنجنيق، أو اختطف الحجر الأسود 18 سنة، ولا من لعن عليا كرم الله وجهه 80 سنة على المنابر، وليس منا من عذب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك وابن حنبل، ولا من قتل أهل بيت النبى لدنيا يصيبها، لذلك فنحن نرانا أهلا لحسن ظنكم بنا، وأنتم منا ونحن منكم ونحن نعتمد على علمكم فلا تجعلونا نستظل بظل فقه غير فقهكم؟؛ ولا تجعلوا لغيركم سبيلا فقهيا علينا. لكنى من كثرة ما جاهدت ضد مناهج الأزهر ترانى يائسا، فكما فشلت مع القرود أن تعلم بأن ثمرة المانجو أحلى من الفول السودانى الذى تهواه، فأرانى فشلت مع المناهج بالأزهر أن تتطور، ويبدو أنى سأكمل حياتى فاشلا مع القرود، ومجاهدا مع مناهج الأزهر، إن مناهج الأزهر تخرب عقول الطلاب وتستحثهم ليكونوا بغاة فكريا وراسبين نفسيا ومع هذا تجد تلك المناهج الأزهرية راسخة رسوخ الجبال الرواسى.

∎ كعكة البرلمان
لقد فاز الإخوان والسلفيون بكعكة البرلمان، وظاهر أمرهم الاجتماع لكن هيهات أن تجتمع السلفية أو تتحد إلا مع نفسها، لذلك ترقبوا شجارا وخلافا وعنفا فى الخصومات بين الفائزين الإسلاميين بالبرلمان، فبينما يتميز الإخوان بالدهاء والمرونة وسعة الصدر، يتصدر التعصب والتعنت وقلة الحيلة المشهد السلفى، لذلك فلن تمر الأيام على مجلس الشعب بخير يذكر، وستكون مهمة البرلمان التصفيق والشكر للمجلس العسكرى، وسيقدم الرئيس القادم الأوسمة والأنواط للمجلس العسكرى حتى يضمن عدم محاسبته على إجراءات يراها البعض جرائم ارتكبها ذلك العسكرى ضد الشعب وضد الثورة.

∎ إسلامنا وإسلامكم
لقد صدق القائل حين يقول لا أريد إسلامكم لكن أريد إسلاماً لا يُكره أحداً على أداء شعائره كما قال سبحانه: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ..» الكهف .29 إسلاماً يُقِيّم الناس بالمحبة التى فى قلوبهم وليس ذلك الإسلام الذى يُقيمهم بما يلبسون ولحاهم التى يطلقون، فالله تعالى قال فى كتابه العزيز بسورة الشعراء: «يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ) 88 (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) .89

نعم أُريد ذلك الإسلام الذى يحنو على المسكين واليتيم والأسير أيّاً كان دينهُ أو عرقه أو عقيدته فقد قال تعالى «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» الإنسان .8

ولم يقل ويطعمون المسكين المسلم، أو اليتيم المسلم، أو الأسير المسلم فقط.

نعم أُريد إسلاماً يُدافع أتباعه عن كنائس ومعابد غير المسلمين كما يدافعون عن المساجد فالله تعالى هو سبحانه القائل: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ» الحج .40 نعم أُريد إسلاماً يعلو بالتواضع ويسمو بالرحمة والمغفرة لا باللعنات والكبر فالله تعالى هو القائل: «وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم» النور .22

نعم أُريد ذلك الإسلام الذى يشهد أتباعه بالحق والصدق ولو حتى على أنفسهم كما قال ربى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً» النساء .135

نعم أريد ذلك الإسلام الذى تسمو فيه الروح فوق الأحرف والكلمات والمذاهب والفرق كما قال ربى: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» الشورى .52 نعم أُريد ذلك الإسلام الذى يجعل أتباعه «ربانيين» وليسوا شراذم متفرقة بين المذاهب كما قال ربى: «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ» آل عمران .79 أى أولئك الذين يرى الناس أعمالهم الحسنة فيقدسون وجه خالقهم ومبدعهم .

نعم أُريد ذلك الإسلام الذى يجعلنا نُقدس الإبداع فالله تعالى هو: «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ» البقرة .117 ونحترم الفكر المخالف ونرى فيه جمالاً لأهميته فقد قال ربى «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» هود .118 إنى أُؤيد ذلك الإسلام الذى هجره ونسيه الكثيرون كما قال الله: «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورا» الفرقان .30

فإن كانت تلك الصفات والتى تسمح باحترام الفكر والتنوع والاختلاف وتقدس الجمال والإبداع هى مرجعية الإسلام فأهلا وسهلاً بها. وإن كان مفهوم المرجعية عند البعض هو إكراه الناس على شعائر الدين وقمع بناء كنائسهم ومعابدهم وإصدار الأحكام على البشر ونعتهم بالكفر والزندقة فلا أهلاً ولا سهلاً بتلك المرجعية . فهؤلاء لا يريدون لنا «ذلك» الإسلام الذى أنزله الله للناس بل «إسلام» يستعبدون هم به الناس فحذار منهم!، ورحمة ببلادنا فلسنا أفغانستان ولا الصومال ولا السودان، فقد تقدمت تركيا بالإسلام، وتقدمت ماليزيا بالإسلام، فلا تخذلونا فنتأخر بإسلامكم.


محام بالنقض ومحكم دولي وكاتب إسلامي



الإسلام والحرية والعلمانية (١-٥)

تتردد هذه المفردات كثيراً فى معظم الكتابات الحديثة عن الإسلام دون أن تصل إلى تحديد دقيق، ويغلب دائماً أن تأخذ الشكل الأكاديمى الذى يغرق القارئ فى نصوص متعارضة واستشهادات متفاوتة، ونرجو أن نقدم فى هذا البحث إضافة تأخذ أسلوباً جديداً وتنتهى إلى نتائج جديدة أيضاً، قد تخالف المأثور التقليدى، ولكنها تتفق تماماً مع نص القرآن الكريم وروحه وما ثبت عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.
الحرية
الانطباع الذى تصدر عنه معظم الكتابات التقليدية عن الحرية والإسلام أن الإسلام لما كان بالدرجة الأولى ديناً، فمن الطبيعى أن يختلف فى أهدافه ووسائله عما تتجه إليه وتنهجه الحرية والعلمانية، وشواهد الحال تدعم هذا الانطباع، فمعظم المفكرين الإسلاميين يضيقون بالحرية والعلمانية، وأكثرهم تحرراً يقف عند «الثوابت»، فى حين أنه لا معنى لحرية الفكر إذا حرمنا عليها مناقشة الثوابت، إذ إن أهم ما يفترض أن تتجه إليه الحرية هو هذه الثوابت بالذات، التى إن كانت تقوم بالحفاظ والاستقرار للمجتمع، وتمسكه من الانزلاق أو التحلل، إلا أن عدم مناقشتها يجعلها تتجمد، بل تتوثن وتأخذ قداسة الوثن المعبود، هذا كله بفرض أن الثوابت هى دائماً صالحة ولازمة، ولكنها لا تكون كذلك دائماً، وقد جلى القرآن صيحة عجب المشركين من الرسول الذى يريد أن يجعل الآلهة إلهاً واحداً: «إن هذا لشىء عجاب»، فضلاً عن أن الثوابت تعبير مطاط فيمكن أن تنتقل من الله إلى الرسول ومن الرسول إلى الصحابة، ومن الصحابة إلى السلف الصالح، كما هو الحال فى فكر الكثيرين، وتجربة البشرية أنه ما إن يسمح المشرع باستثناء فى الحريات، ولو كثقب إبرة، حتى يصبح ثغرة تتسع للجمل وما حمل.
وحتى عندما تسمح حرية الفكر بالغلو، فإن الغلو، وإن كان فى مجموعه سيئاً، إلا أنه قد يصل إلى استكشاف ما لا يستكشفه النقاش المألوف، وقد كان الخوارج من أكثر الناس غلواً فى بعض جوانب عقيدتهم، ومع هذا فقد كانوا هم الذين استكشفوا فساد المبدأ الذى أقره الفقهاء جميعاً «الأئمة من قريش»، وقالوا إن الإمام هو الأصلح، وذهب بعضهم إلى عدم ضرورة الإمامة أصلاً، إذا استطاع الناس أن يصلحوا أمورهم فيما بينهم، وهو ما اعتبر أقصى درجات الغلو، ومع هذا فإنه كان ولايزال أمنية كثير من المفكرين.
وقد كشف شاعرنا الكبير شوقى ببداهة الفنان بعض الجوانب المشرقة فى الغلو فى مرثيته الرائعة لأمين الرافعى الذى اتهمه أعداؤه بالغلو فى الوطنية:
قيل غال فى الرأى، قُلت هَبُوه قد يكون الغلو رأياً أصيلاً
وكم استنهض الشيوخَ وأذكى فى الشباب الطماح والتأميلا
ولكن شيئاً من هذا لا يمكن أن يقف أمام السد المصمت الذى يقيمه المفكرون الإسلاميون ما بين الثوابت والحرية، والذى يقضون به على أعظم رسالة للحرية، ألا وهى الحيلولة دون توثين الثوابت، حتى عندما نقول لهم: إن هذا التوثين يصبح مع الزمن شِرْكاً، وما حركة ابن تيمية إلا مقاومة لتوثين ما توهمه معاصروه ثوابت، حتى عندما نقول لهم هذا فإنهم لا يغيرون موقفهم الذى أصبح نوعاً من «المزاج» وجزءاً من الشخصية.
ونحن نؤمن إيماناً تاماً بأن الإسلام الذى يُعتد به، أى إسلام القرآن والصحيح عن الرسول، يأخذ بمبدأ حرية الاعتقاد والفكر على إطلاقها، وشاهدنا ومستندنا فى هذه الدعوى أمران: الأول: نصوص الآيات بالقرآن الكريم والمواقف التى وقفها الرسول، والثانى: طبيعة الأشياء التى يأخذ بها القرآن ويطلق عليها «سنة الله».
ولا يعنينا بعد هذا فى شىء ما تحفل به كتب الفقه، وما تتضمنه من أحكام عن المرتد، ومَنْ جَحَدَ مَعْلُوماً من الدين بالضرورة، «فمن قصد البحر استقل السواقيا».
أما آيات حرية الفكر والاعتقاد فى الإسلام فقد تبلغ مائة آية كلها تقرر أن مَنْ آمن فلنفسه، ومن كَفر فعليها، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، وأنه لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ. وأن الرسول، وهو الداعى إلى الإسلام ليس عليه إلا البلاغ، ولكنه ليس حفيظاً ولا مسيطراً ولا جباراً ولا حتى وكيلاً عن الناس، وأنه لا يهدى من يحب، وإنما يهدى الله من يشاء «لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ»، وأن ليس للرسول أن يبخع نفسه أمام من لم يؤمنوا: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».
أما الاختلاف فحكمه إلى الله «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ».
كما يلفت النظر إلى أن القرآن تحدث عن المرتدين عدة مرات دون أن يوجب عليهم عقوبة دنيوية، وإنما جعل جزءاهم على الله يوم القيامة.
أما الحرب التى أطلق عليها الردة فليست إلا تمرداً عسكرياً من بعض قبائل العرب التى ضاقت بالحكم المركزى، وبدفع الزكاة وتولية أبى بكر، ولكنهم كانوا يؤمنون بالله وبالرسول ويؤدون الصلوات، فلم تكن حرب ردة، وإنما كانت رداً (لأنهم هم الذين بدأوا الحرب قبل أن يتحرك أبوبكر) على تمرد عسكرى.
ولم تظهر حكاية المرتد، واستتابته إلا فى مرحلة لاحقة وعلى أيدى الفقهاء الذين أصدروا أحكامهم من منطلق «حكم الصنعة»، وبدعوى حماية العقيدة وبتأثير النظم السياسية الطاغية... إلخ.
يدعم هذه الحقيقة موقف الرسول من المنافقين فى المدينة الذين قال عنهم القرآن إنهم «الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً»، «وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا»، ومع هذا فلم يوقع عليهم الرسول عقوبة من أى نوع وتغاضى عن كفرهم، أما ما يوردونه من أحاديث تتضمن عقوبة على الردة، فإنها إذا صحت تقرن الردة بالخروج عن الجماعة، مما كان يعنى وقتئذ الانحياز إلى المشركين ومحاربة المسلمين.
على أن موقف على بن أبى طالب من الخوارج الذين خسروه نصر صفين، بعد أن كان قاب قوسين منه، وانعزلوا عنه وسيوفهم على عواتقهم، ثم كفّروه ! بعد كل هذا لم يشن عليهم الإمام على الحرب، بل تركهم وعرض عليهم تسويتهم ببقية المسلمين حتى بدأوا العدوان فلم يكن مناص من رده، وهذا المثال مما يندر وجوده فى أشد النظم تحرراً وديمقراطية.
قلنا فى مستهل الفقرة إن سندنا فى أخذ الإسلام بحرية الفكر هو النصوص القرآنية ثم طبيعة الأشياء التى يأخذ بها القرآن ويطلق عليها «سُـنة الله»، وقد أشرنا إلى ما جاء فى القرآن من نصوص، وبقى أن نعالج نقطة «طبيعة الأشياء».
وهذه قضية لا تتطلب عناء، لأنها تكاد تكون من البديهيات. فالأديان مادامت تقوم على الإيمان القلبى والاقتناع العقلى، فإنها تفترض مقدماً وجود الحرية، فلا إيمـــان دون اقتناع، ولا اقتناع دون تفكير، ولا تفكير دون حرية، ولهذا، حق للقرآن أن يستنكر.. «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ». وصرح بالمبدأ.. «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ»، واعتبر الرسول أن «الأعمال بالنيات»، كما قرر الفقهاء أن «النية» شرط لسلامة الشعائر وهذه كلها، أعنى النية، والإيمان تتنافى مع وجود أى صورة من صور الضغط والإكراه ومن ثم تفترض وجود الحرية.
وفى كتابنا الموجز: «لست عليهم بمسيطر: قضية الحرية فى الإسلام»، قلنا: إن الحرية فى المجتمع الأوروبى تنبع من الإنسان، وإنها فى الإسلام تنبع من الحق، ولكن هناك حرية واحدة ليس للحق وصاية عليها، لأنها هى الطريق إلى التعرف على الحق «ومن ثم فلا يكون له وصاية عليها، هى حرية الفكر».
ولم نجد حرجاً من أن نفرد فصلاً تحت عنوان: «ضمانات الحرية فى مواجهة الحق»، لأن تجربة البشرية كانت دائماً أن يحيف الحكام والسلطان على الحرية بدعوى الحق، ومن هنا فإن الإسلام فى الوقت الذى قرر فيه حرية الاعتقاد وفتح بابها على مصراعيه، فإنه أوجد ضمانات تحول دون الافتيات عليها بدعوى هذه الحقوق.
ويستشعر المفكر المسلم أعظم الأسى عندما يجد أن الآيات القرآنية، والمواقف النبوية، وطبيعة الأشياء كلها تدعو إلى حرية الفكر، ومع هذا فإن الإحساس بالحرية فى فكر الفقهاء والعلماء المسلمين ضحل، ويكاد يكون منعدماً، يستوى فى هذا المحدثون جنباً إلى جنب القدماء، فبقدر ما يتحدثون عن الحرية، بقدر ما يتضح أنهم إنما يعنون بها حريتهم وليس حرية الآخرين.

  بقلم   جمال البنا    ٥/ ١٠/ ٢٠١١

الأكثر مشاهدة

Trending Template